Version classiqueVersion mobile

إدارة الإقتصاد السوري زمن الانتداب الفرنسي (1918-1946) - تأثيراتها فيما بعد الاستقلال

 | 
محمد علي الصالح

ختام - عود على بدء، حداثة أم أعادة انتاج ؟

Texte intégral

1قلنا في نهاية الفصل الرابع، إنه لكي تصبح الإجابة على التساؤلات التي سبق وطرحناها هناك، لها ما بعدها، فإن ذلك يتطلب تجاوز فترة الانتداب، لتشمل الدراسة أيضا الفترة ما بعد الاستقلال، وحتى الآن. ليس فقط من أجل حصر تأثيرات التحولات التي حصلت أثناء الانتداب، على ما تم مباشرة بعد الاستقلال. لكن أيضا لاختبار مدى تطابق صحة الفرضيات التي توصّلنا إليها، مع ما جرى على أرض الواقع، خلال مدة أطول زمنا، ومفصلية من تاريخ سوريا.

2هناك، كما نعتقد أيضا، وجوب عدم إغفال دور "الموروث التاريخي" الذي يقبع في أساس تجربتنا الذاتية في تأسيس المجتمع وبناء الدولة، الذي أشرنا إلى بعض منه، في الفصل الأول. سنكتفي حاليا، وفي هذا المضمار، بإسقاطات سريعة حول "ما قبل" و"ما بعد" فترة الانتداب، موضوع بحثنا، استنادا إلى أبحاث سابقة قمنا بها، عسى أن تتوضح الخطوط العريضة لما نريد قوله، تاركين للزمن، ولظروف ربما تأتي أفضل من ظروفنا الصعبة التي نمر بها حاليا، لتفسح المجال لنا، للقيام بدراسة أعمق حول معالم "الدولة السلطوية" التي أعقبت الاستقلال، منذ أن استلم "البعث" الحكم في سوريا، وحتى الآن.

3كما سبق وذكرنا، جاء صك الانتداب الذي أصدرته "عصبة الأمم" عام 1922، ليثبّت متأخرا، شرعية التواجد الفرنسي في المشرق الذي بدأ بنزول القوات الفرنسية إلى السواحل السورية واللبنانية عام 1918. أي، قبل احتلال الجنرال غورو لدمشق عام 1920، وليمتد هذا التواجد حتى نيسان عام 1946، عام جلاء المستعمرين عن سوريا. أظهرت دراستنا، أن هناك فترتين زمنيتين تميزان حقبة الانتداب الفرنسي.

4تمتد الفترة الأولى، منذ احتلال دمشق عام 1920، وحتى دخول القوات البريطانية ومعهم الديجوليين، قادمين من فلسطين عام 1941.

5بعدها، بدأت المرحلة الثانية للتواجد الأجنبي في سوريا، التي امتدت منذ العام 1941، وحتى جلاء آخر جندي أجنبي عن سوريا عام 1946. وكما رأينا، كان لمرحلة الكوندومنيوم الفرنسي البريطاني القصيرة والأخيرة هذه على سوريا ولبنان أبعد الأثر، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وبالتالي على تشكل الدولة الوطنية في كل منهما، بعد الاستقلال. فاق ذلك تأثيره، في اعتقادنا، مجمل تأثيرات حقبة التواجد الفرنسي خلال الفترة الأولى، التي دامت أكثر من عقدين من الزمن.

6أما ما يتعلق بفترة الانتداب الفرنسي "البحت"، أي خلال الفترة 1920‑1941، فيمكن أن نختتم القول بشأنها، بما يلي :

7خرجت فرنسا منتصرة من الحرب العالمية الأولى، لكنها مستنزفة ماليا، لتجد نفسها تجابه بلدا مضطربا، اسمه سوريا. "تطوعت" لترويضه، فإذا بها ترى نفسها تتحمل عبئا اقتصاديا إضافيا، تصعب إدارته دون دعم مالي أوسع مما تستطيع توفيره لوحدها. لكن المحدودية الزمنية من حيث المبدأ، للصيغة الانتدابية، جاءت لتنتفي معها إمكانية قيام أي جهد استثماري أوروبي آخر، أو غيره طويل الأمد، يمكّن من أن يشرك الفرنسيين في تحمل أعباء التنمية في سوريا. خاصة، بعدما تكشف لهم منذ أيام الدولة العثمانية، أن أي استثمارات يجرونها في المشرق، لن توفر لهم ما يصبون له من عائدات مالية، يمكن لهم أن يحصلوا عليها على المدى المنظور. مما فاقم هذا الوضع أيضا، هو تلكؤ الفرنسيين في إقرار النظام الأساسي، لكل من سوريا ولبنان، الذي لم تقره قط الجمعية الوطنية الفرنسية، وبالتالي لم يرفع قط لعصبة الأمم لتقرّه هي بدورها أيضا، لكي يصبح نافذ المفعول. ربما كان لنظام أساسي من هذا القبيل، لو جرى، وتم إعداده بدون تأخير، ومماطلة، كما حدث يومها بالفعل، من أن يساعد على توفير الضمانات اللازمة للرأسمال الأجنبي، خاصة الفرنسي منه، للقدوم إلى البلد، حتى وإن عمل يومها، بالدرجة الأولى، لمصلحة المساهمين في الغرب الاستعماري.

8كما أشرنا إلى ذلك مرارا، من خلال بحثنا، تميزت إدارة سلطة الانتداب، بالمعنى الدقيق للكلمة، بالتردد في تنفيذ الإصلاحات البنيوية اللازمة. بدل ذلك، نرى الانتداب يهتم في المقام الأول، في كيفية الحفاظ على "التوازن" بين المصالح المختلفة، للفرقاء المعنيين، بادئا بمصلحته. ليس لأن المفوضية السامية كانت تجهل الحاجة لخطة شاملة لإقامة المشاريع الإنمائية الكبيرة التي كان البلد بحاجة إليها. بل بالعكس، كان لديها منذ اليوم الأول للانتداب تصور تام عن مثل هذه الحاجة الماسة. بدلا من ذلك، نراها تلجأ إلى القيام بإنجازات جزئية، عن طريق تسخير غير مباشر للموارد المالية التي كانت توفرها مؤسسة محلية. وهو ما دعي يومها بِـ "المصالح المشتركة". أدى ذلك بالطبع إلى البطء في الحصول على نتائج محسوسة للتنمية، طوال عقدين من الزمن، كما بقيت في معظمها ناقصة.

9بتفصيل أكبر، نقول للتوضيح، لم تؤد إدارة الاقتصاد السوري من قبل الانتداب الفرنسي إلى النتائج المرجوة التي كانت تطمح إليها "عصبة الأمم"، عندما انتدبت فرنسا للقيام بها في سوريا ولبنان، مقدمة لمنحهما الاستقلال.

  • 1 CADN, fonds Beyrouth, Dossiers de principes 1920‑1941, carton 726, Notes sur le Rapport des États s (...)

10في سوريا، جاء العمل بنظام نقدي هش أيام الانتداب، وإقامة إدارة سيئة للنظام المصرفي، واتِّباع سلطة الانتداب لسياسية مالية لا تتماشى مع الواقع الاقتصادي للبلد، ليؤدي كل ما تقدم إلى إعاقة تنميتها بدل تقدمها. وهو ما أشار إليه تقرير لمفتش الحكومة الفرنسية المالي دوشاتيل، الذي سبق ذكره في الفصل الثاني، والذي خلص فيه إلى القول عام 1939، بِـ "أن تركيا بدأت تتجاوز (اقتصاديا) سوريا، وهو ما لم يكن متوقعا حدوثه قبل سنين قليلة مضت".1

11إضافة، إلى أن معالجة المفوضية السامية الهامشية في بيروت، للمشكلة الزراعية في سوريا، أحدثت ردودا سلبية لدى مواطني البلد. فمن وجهة نظر السوريين، لم يكن مبررا محاولة الاكتفاء بتعديل النظام الضريبي، وإحداث مصرف زراعي، وبتوزيع أكثر عدالة للأرض، وتمليكها للفلاحين لاستثمارها، دون أن توضع أيضا تحت تصرفهم الموارد المالية الكافية، من أجل تحقيق الهدف التنموي المراد بلوغه من وراء ذلك، وتحقيق فعلي للعدالة الاجتماعية، بدلا من تسخير بؤس الناس أيضا، لخدمة الأغراض السياسية لسلطة الانتداب، أولا.

12ومن المفارقات، التي حصلت أيضا أيام الانتداب، أن إدارة الاقتصاد، ناهيك عن الإدارة الانتدابية بمفهومها الأشمل، كان لها أن تكون أكثر نجاعة، لو انه لم يتم يومها تفتيت البلد إلى دويلات تتجمع حول "عواصم" مناطقية. تماما، كما كان الحال في القرون الوسطى، أيام الإمارات في الديار الشامية. فلو بقيت سوريا على حالها كوحدة جغرافية يوم كانت ولايات وسناجق عثمانية، لا يفصل شمالها عن جنوبها في فلسطين والأردن، وغربا بعزلها عن الساحل اللبناني، لكان الانتداب أقل تكلفة لفرنسا، وللدويلات التي أنشأتها، على حد سواء.

13في واقع الأمر، ما أعاق الإدارة الانتدابية، ليس فقط غياب مصرف مركزي لسوريا بمعناه الحقيقي، يشرف على السياسة النقدية، ويرفد القطاعات الاقتصادية المختلفة بالاعتمادات طويلة الأجل التي تشكل أساس أي تنمية جدية. كان يجب أيضا إيجاد مصارف زراعية أكثر تطورا، لتشكل اللبنة الأساسية في سياسة زراعية، وخطة شاملة للبلد، ككل. ما حدث كان عكس ذلك، كما ورد في دراستنا التي أشارت إلى هزالة الاعتمادات الزراعية التي خصصت يومها لقطاع هو الأهم، في بلد زراعي كسوريا.

14إضافة إلى ما تقدم ذكره، كان باديا للعيان، قبل الإصلاح المالي الذي أجرته سلطة الانتداب متأخرة عام 1942، إلى أن القطاع الزراعي كان يتحمل العبء الضريبي الأكبر، بالقياس مع قطاعي التجارة، والصناعة، في البلد. لم يجئ الاصلاح المالي المذكور متأخرا فقط، بل حتى الإجراءات التي اتخذتها سلطة الانتداب أثناء الحرب العالمية الثانية، كان لها أن تبقى بدورها غير كافية، لولا اجتهادات الجنرال سبيرز Spears البريطاني، رئيس بعثة الارتباط البريطانية في بيروت، تحت ضغط متطلبات المجهود الحربي للحلفاء. أما ما هو أخطر مما تقدم، فكان انتشار الفقر، عند نهاية الثلاثينيات عشية الحرب، وارتفاع عدد العاطلين عن العمل الذي ازداد تضخما بقدوم أعداد من الفلاحين الهاربين من أراضيهم إلى المدن، بعد أن أرهقت كاهلهم الضرائب التي كان عليهم دفعها. يولد ما تقدم الانطباع، بأن الانتداب لم يحقق سوى جزء من المهمة التي كلفته بها عصبة الأمم في حينها، عندما اكتفى ببذل جهد اقتصادي غير متكامل، وبالتالي آخر سياسي، جاء مجتزأ، جهد الانتداب في حرفه ما استطاع عن هدفه الأساسي الداعي لتأهيل سوريا التي كانت عصبة الأمم قد صنفتها منطقة (ألف)، بهدف أن تنال استقلالها بأسرع ما يمكن.

15يدفعنا ما تقدم لإعادة القول بأنه لولا التحول الكبير في ظل الكوندومنيوم البريطاني الفرنسي، التي أحدثته في الأربعينيات ظروف الحرب العالمية الثانية، وتجربة "مركز التموين للشرق الأوسط" في القاهرة، لجاءت النتيجة على مستوى الإعداد الإداري والسياسي للبلد أسوأ مما حدث، ولكان الزاد الذي زُودت به سوريا زمن تجربة الانتداب أشحّ وأكثر ضآلة. كما كان لذلك أثر محسوس ليس فقط على عملية تشكل الدولة الوطنية في سوريا، بل أيضا، لأنها وقعت، في اعتقادنا، في أساس تحديد ملامح العلاقات المستقبلية بين الدولة والمجتمع، فيما بعد الحقبة الكولونيالية التي انتهت بإقامة "الدولة السلطوية".

16وإذا كان الشكل الدولتي statist، قد شكل ظاهرة عامة، خلال الفترة 1945‑1960، ولم تكن خاصة بدول المشرق العربي فقط، وإذا كانت تباشير "الثورة" الصناعية انطلقت في المنطقة، أيام الحرب، ضمن مفهوم البديل الاستيرادي، لاعتبارات لم يكن لها علاقة بموضوع تحرر الشعوب، فإن التطورات التي حصلت لاحقا جاءت ليس فقط لأسباب ظرفية (متطلبات حروب الآخرين على أرضنا). هي حصلت أيضا، لأنها تقاطعت مع "هوى" محلي لدينا له علاقة بموروثنا التاريخي، وبتوفر استعداد شبه "فطري" لدينا للدولتة، ولجانبها السلطوي الحاد التي اتسمت به في سوريا، وفي باقي دول المشرق العربي، وإن بدرجات، وبأنماط متفاوتة، ما بين ملكية، وأخرى "جمهورية"، وفي كل الأحوال قمعية.

17هناك، كانت إذن أرضية محلية كافية، ليرتكز عليها توجه الحلفاء نحو "اقتصاد حربهم"، أيام الحرب العالمية الثانية. ساعدوا على تحديثها قدر الإمكان، بتوفير الآليات والمهارات اللازمة لها بما يخدم مصالحهم أثناء الحرب، قبل أي اعتبار آخر. لكن، كما رأينا، دون أن يكونوا قد خططوا لدوام ما أحدثوه إلى ما بعد انتهاء الحرب أيضا، وبعد رحيلهم.

18حاولوا بعد الاستقلال إقناع البورجوازية الحاكمة، بالتخلي عن سياسة "الضبط الاقتصادي"، وعدم اتباع سياسة حمائية. لأن مصالح الحلفاء الاقتصادية، عادت بعد انتهاء الحرب تتطلب ذلك، لكن بدون نتيجة تذكر. وإذا كانت البورجوازية الوطنية قد سبق وأظهرت بعض المبادرات الاقتصادية خلال الحكم الفرنسي، خاصة أثناء الحرب، أي خلال المرحلة الأخيرة منه في الأربعينيات، إلا أنها سرعان ما عادت بعد عقد من انتهاء الحرب إلى لعب دورها "السلبي" التقليدي. أحجمت في اللحظة الحرجة، عن ترجمة قوتها الاقتصادية المكتسبة حديثا إلى سلطة سياسية واعية. مع أن سياسة الضبط الاقتصادي، عن طريق الدولة، كانت قد أغوتها لوهلة، لكي تستمر في تمسكها بالسلطة على البلاد.

19ألمحنا من خلال بحثنا، لبعض التفسيرات حول أسباب ما حدث. قلنا إنه يمكن تفسير ذلك، بسبب استمرار هشاشة البنية الاجتماعية في المدن التجارية الكبيرة، وعلى رأسها مدينتا دمشق وحلب، في وقت ازداد ضغط الريف فيه على هذه المدن، نتيجة استقطابها للباحثين عن عمل من أهل الريف، بعد خروجهم من دائرة الانتاج الزراعي. هناك أيضا، عودة فئة التجار التقليديين، للضغط على "الاقتصاديين" رواد التصنيع، لتفضيلهم جني الريوع المتأتية عن استيراد السلع المستوردة، دون عوائق حمائية، بدل تشجيع الصناعات المحلية. إضافة إلى ضغط المستجدات السياسية الطارئة، بدءا من حرب فلسطين الأولى، وما تلاها من تطورات كثيرا ما جرى التكلم عنها في دراسات أخرى.

20مع ذلك، يعود السؤال ليطرح نفسه، لماذا حدث كل "ذلك" ؟

21نعود هنا لمحاولة الإجابة، ساعين لحلحلة وتفكيك، بعض "عقد السلسلة" فيما حدث معنا، ماضيا، وحاضرا، وما زال يستمر يحدث معنا :

22قلنا كانت هناك "أرضية" محلية كافية، على أساسها صنفت عصبة الأمم سوريا ضمن المنطقة (ألف). بمعنى ان سوريا، كانت أصلا مؤهلة، لنيل استقلالها خلال مستقبل منظور. هذه الخلفية التاريخية، أو الأرضية، هي التي رأى الحلفاء أنفسهم يرتكزون عليها في سوريا، أثناء الحرب العالمية الثانية.

23كنا قد أشرنا في مدخل الفصل الأول إلى بعض ملاحظاتنا، حول تطور بنية الدولة والمجتمع في بلاد الشام، بدءا من فترة الحروب الصليبية، مرورا بتاريخ سوريا العثماني، التي نشأت على أنقاضها الدولةُ السورية العلمانية الحديثة، زمن الانتداب الفرنسي، وولادة "الدولة المدولتة" بعد الاستقلال.

24ومع أن علماء الاجتماع منذ ما كتبه سبنسر وماركس لم يتفقوا بعد، حول ما يعنيه لهم مفهوم المجتمع، أو "البنية الاجتماعية". إلا، أن تعريفاتهم المختلفة لها، تظهر تقاطعات وقواسم مشتركة يصبح ممكنا عندها تعريف البنية الاجتماعية، بشكل عام، على أنها تضم على الأقل بعض عناصر الصفات التي تميز شريحة اجتماعية أو مجتمعاً عن غيره. على أن تتصف هذه العناصر بالاستمرارية في الزمن، وترتبط فيما بينها بعلاقات يتحدد بموجبها كيف تعمل تلك الوحدة الاجتماعية، ككل. يحدد عندها ذلك أيضا، كيف ستكون عليه طبيعة الأنشطة المختلفة للأفراد الذين يتألف منهم مجتمع ما. يعني هذا التعريف للبنية الاجتماعية، ان البشر ليسوا أحرارا كليا، أو ليسوا مستقلين تمام الاستقلال، في أن يختاروا ما يبغون ممارسته. لكن يحكمهم في خياراتهم المجالُ الاجتماعي، الذي يعيشون ضمنه، والعلاقات الاجتماعية التي يقيمونها فيما بينهم. إضافة إلى التأثيرات الخارجية، كما رأينا من خلال بحثنا.

25استنادا لما تقدم من تعريف، يصبح من الصعب التكلم عن مفهومنا للبورجوازية وللطبقة الوسطى السورية بشكل عام، ويبقى توصيفنا للمجتمع السوري شائكا، ضمن سياق عربي خلط على الدوام، وما زال يخلط، بين مفهومه لِـ "الشعب"، ولِـ "الأمة". كما أنه، يفهم الدولة، على أنها مجرد جهاز إداري، إلى جانبه مؤسسة عسكرية وأخرى أمنية، تضمهم سلة واحدة، ليس إلا. يحدث ذلك، دون أن تحاول دائرة الثقافة العربية، أن تحيط بالمفهوم الغربي للدولة‑الأمة. ولم يسبق لها أصلا أن فعلت ذلك، أو حاولت قط أن تفهم ذلك بشكل جدي. كل ذلك يمكن أن يقود إلى استنتاجات غير دقيقة، وغير مؤكدة.

26إذن، لا يمكن اعتبار الدولة السورية الحديثة، على أنها مجرد امتداد لما يدعى بِ "بناء فوقي" كان موجودا على الدوام قبلها، أو أنها انبثقت من لدن بورجوازية أو طبقة وسطى أو أخرى غيرها، كانت متواجدة هي أيضا على الدوام ومسيطرة على صعيد علاقات الانتاج في البلد.

  • 2 M. Ali El‑Saleh : Handel und Wirtschaftsstruktur Syriens im Zeitalter der Kreuzzüge, Inaugural Diss (...)

27مع ذلك، وفي نهاية الأمر، فإن متطلبات الحياةِ الاجتماعية في بلد كسوريا، خلال تاريخها الطويل، هي التي فرضت نفسها على سواها من الاعتبارات. هذا لا ينفي بالطبع ما كان للعقائدِ أيضا، دينية كانت أم سياسية، من تأثير خلالها في الظواهرِ الاجتماعيةِ، والاقتصادية ايضاً. مع ذلك، يمكن القول، استنادا لتجارب الشعوب القريبة منا والبعيدة، على حد سواء، بأن القوى المحركة في الحياة الاقتصادية غالبا ما تؤدي بالعقائد لأن تتكيف مع متطلبات واقع هذه الشعوب الاجتماعي، وليس العكس. إلا، في ما يتعلق ببعض البنى الفرعية، وليس على مستوى البنى الأهم لهذه المجتمعات :2

28في المقابل، هناك من يعتقد في الغرب، من بين العلماء الذين لا يخفون عداءهم للإسلام، أنه هو الذي أدى بأتباعه إلى مستنقع التخلف والركود. عندما خنق لديهم كل مبادرة اقتصادية، بعكس ما حدث معهم في مجتمعاتهم الغربية، على حد زعمهم، نتيجة الثورة الرأسمالية، والليبرالية الديمقراطية. قلائلٌ هم، من بينهم، من يتعرضْ لإشكالية التقدم، والتخلف، لدينا على نحو من الإنصاف، وعلى اعتمادِ مقاييسَ أكثرَ علمية، حول العلاقة القائمة بين العقائدِ في مجتمعاتنا من جهة، وواقعنا الاجتماعي من جهة أخرى.

29السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو لماذا إذن انتصرت الرأسمالية، عنوان الازدهار والتقدم، في الأزمنة الحديثة في أوروبا، وفي غيرها من البلدان كاليابان، مثلا ؛ ناهيك عن النظامين المتفرعين عن الرأسمالية، في الصين الشعبية وفي الهند، ولم يحدث ما يشبه ذلك في بلدان الشرق الأوسط العربية ؟

30يشير بعض علماء الاجتماع الغربيين، من أمثال ماكس فيبر وماركس وسومبارت أيضا، إلى أن الرأسمالية الحديثة قد وُلِدت من رحمي رأس المال التجاري وقطاع التبادل المالي، في العصر الوسيط الأوروبي المتأخر.

31من المشاهد في هذه المرحلة، نشوءُ قطاعات مالية مماثلة في العالم الإسلامي القروسطي. مما يثبت أن الإسلام لم يشكل يومها عائقا للتطور في هذا الاتجاه. ففي بلاد الشام، خلال فترة الحملات الصليبية، يلاحظ تواجدَ قطاعات رأسمالوية capitalistiques واضحة المعالم فيها، من تجارية، ومالية. أي مباشرة، خلال الفترة الميركانتيلية، ما قبل الرأسمالية في أوروبا، وإلى جانبها قطاعات اقتصادية واسعة أخرى، كان يغلب عليها طابع الاستهلاك الذاتي الذي يميز الاقتصاد الريفي.

32من جهة أخرى، ما يزال الاعتقاد سائدا، بأن المرحلة الإقطاعية في التطور الاقتصادي والاجتماعي شكلت مؤشرا ضروريا على قرب الانتقال إلى المرحلة الرأسمالية، بل وأسست لها.

33كما ذكرنا في بداية الفصل الأول، جرى عموما هذا التحرك في الدولة الإسلامية للأخذ بالنظام الإقطاعي، لأسباب مغايرة لتلك التي تم بموجبها هذا التحول في أوروبا. إذ افتقرت الدولة هناك في الغرب، منذ البدء، إلى العائدات المالية اللازمة لها. نكتفي هنا بالقول : بينما ظهر الإقطاع في الغرب، زمن ضعف السلطة المركزية، وسيطرةِ الاقتصاد الريفي هناك، كمصدر شبه وحيد للثروة، نرى هذا التحول يتم في دار الإسلام، خلال سيطرة دولة مركزية قوية في بغداد، في ظل نشاط اقتصادي متعدد الألوان من زراعة وتجارة عالمية وحرف صناعية رائجة، ليصل في مرحلة لاحقة إلى نظام الإقطاعيات العسكرية في بلاد الشام، في ظل دولة المماليك المركزية القوية. حدث ذلك مع بدء أفول الأنشطة الاقتصادية المتعددة فيها، لأسباب لا علاقة لها بعقيدة ما. وبينما، كان من المشاهد، خلال هذه الفترة أيضا، على أن أصحاب المال والجاه في المدن الشامية، من تجار وحرفيين وملاًك مدينيين، أي ما سمي لاحقا بالطبقة البورجوازية، لم يشاركوا في الحكم والسلطة، نرى أقرانهم في المدن الإيطالية في ذلك الحين، وحتى من كان منهم في المدن الشامية تحت السيطرة الصليبية، يشاركون الأمراء الإقطاعيين الأوروبيين في إدارة شؤون الإمارات الصليبية.

34مع ذلك، لم يؤد نمو سلطة بورجوازيي المدن الإيطالية، الاقتصادية، والسياسية، مثلا، إلى التحول لاحقا في العصر الوسيط المتأخر نحو نمط النظام الرأسمالي الذي حصل في مدن الشمال الأوروبي. كما لم يحدث تحول مشابه في الدولة البيزنطية، المسيحية الأرثودوكسية، التي كانت تسيطر على الملاحة في الأبيض المتوسط قبل الفتح العثماني، ولا حتى في المملكة الإسبانية، المسيحية الكاثوليكية، بعد اكتشاف أمريكا الجنوبية، ونهب ذهبها، أي في مرحلة الاكتناز الأولي، كما في التعبير الماركسي. ناهيك عما حدث عندنا في دار الاسلام. أي أن عدم التحول إلى النمط الرأسمالي شمال أوروبا، لم يحدث في تلك الحقبة التاريخية، بسبب عقيدة دينية معينة. بل يمكن القول في هذا الخصوص إن المنظومة الاقتصادية لكامل منطقة البحر الأبيض المتوسط، بعقائدها الدينية المختلفة، تعثّر فيها التحول للرأسمالية، في الآن نفسه تقريبا. كما أن القول بأن أسباب التحول نحو الرأسمالية في الشمال الأوروبي، نتجت حصرا، كما يظن البعض، بسبب المجابهة التي حصلت هناك بين نظام الإنتاج الإقطاعي المتأخر، والطبقة البرجوازية الناهضة في المدن الأوروبية، فإن ذلك، ما زال قيد البحث والتمحيص، ولم يعثر بعد على الجوابَ الشافي بشأنها. بكلمات قليلة أخرى، لم تكن عقيدة ما في الغرب، ولا حتى وجود طبقة برجوازية واجهت إقطاعاً من نوع معين، المحرك الكافي والوافي في نشوء الرأسمالية، وما نتج عنها من تقدم وازدهار لمجتمعاتها. في المقابل، لم يؤد بالضرورة وضع اقتصادي مميز ما قبل رأسمالي، إلى ما سمي لاحقا بالثورة الرأسمالية، أو إلى النمط الرأسمالي في شمال أوروبا.

35أما ما حدث بعد ذلك، في الأزمنة الحديثة، من تطور اقتصادي في العالم الإسلامي، مغاير لما تم في أوروبا، فمرد ذلك إلى أمور هي أيضا، وقبل كل شيء، دنيوية، وهو ما سبق ووضحناه، عندما تكلمنا عن الدولة العثمانية.

36أظهر ذلك أن عملية التحديث الرأسمالي في الدولة العثمانية تمت في مرحلة أولى بمجهودها الخاص، عندما حاولت تنشيط القطاعات الرأسمالية التقليدية في اقتصادها. وما أن حل القرن التاسع عشر، وأصبح باديا كم هو مهم اللحاقُ بالثورة الصناعية، والاستمرار في عملية الإصلاحات الحيوية، كان الوقت قد فات. فقد منع عندها، التفوقُ العسكري والاقتصادي للإمبرياليين الأوروبيين الدولةَ العثمانية زمن أفولها، من الاستمرار في هذا المجال على نهج ما قام به محمد علي في مصر، بل قاموا بتحطيم التجربة المصرية نفسها، ومنعوا إبراهيم باشا من عملية تحديث الدولة العثمانية، عندما زحف بجيوشه، من أجل ذلك، عبر سوريا باتجاه اسطنبول عاصمة الإمبراطورية.

  • 3 العطالة الفيزيائية، بمعنى أن كل جسم مادي قاصر عن تغيير حالته من السكون أو الحركة ما لم تؤثر عليه قو (...)

37تاريخيا إذن، يمكن أن يفسر لنا تطور الدولة الإسلامية منذ القرون الوسطى، بشكل عام، وفي سوريا المسلمة والعربية، بشكل خاص، بعض الأسباب، أو الخلفية الكامنة وراء "الضعف"، والدور السياسي الثانوي، للبورجوازية السورية الذي لعبته بعد الاستقلال، قبل أن تصبح لاحقا بأمرة دولة سلطوية، مرة ثانية. هناك في رأينا نوع من "العطالة الفيزيائية"3، أو الاستمرارية الزمنية، لصفة لازمت منذ البدء نشوء البورجوازية السورية، كإحدى مكونات المجتمع السوري.

38بشكل عام، وباختصار، يمكننا هنا القول إن "سوء حظ" المجتمع الأهلي، ومن بعده المدني، في سوريا، يكمن في أنه كان يجد نفسه على الدوام، بمواجهة دولة قوية، تارة غريبة عن البلد، وتارة فئوية محلية. في مثل هكذا إطار، يصبح، عندما نتكلم عن "تاريخ" البورجوازية السورية، كمن يتكلم بالأحرى عن تاريخ نشوء وتطور الدولة الإطار في سوريا، وكيف أنها لعبت على الدوام دورا حاسما في تشكل الشرائح المهيمنة، اجتماعيا واقتصاديا، انطلاقا من "الأعلى" باتجاه "الأسفل"، وليس بالعكس. أي، بدل ان ينطلق هذا التشكل من "بناء تحتي"، يفرز من لدنه نحو الأعلى، نخبا يُتوافق عليها، لترتهن بمشيئته قدر الإمكان، وليس بمشيئة فئة قليلة متسلطة، هبطت عليه من "فوق".

  • 4 الأوليغاركية أو حكم الأقلية هي شكل من أشكال الحكم بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة م (...)

39حتى نمط الدولة "المملوكية" التي أصبحت وراثية أيام العثمانيين، كانت غالبا ما تستغني هي أيضا، عن خدمات "بورجوازييها". مع ذلك، شاهدت بلاد الشام خلال الفترة العثمانية، فئة "الوجهاء" المحافظين، والناشطين اقتصاديا، تجتهد انطلاقا من دمشق، لكن على الأخص، انطلاقا من حلب، لتستنبط صيغا متعددة لتقاسم نفوذ القلّة (oligarchique)4، مع موظفين في جهاز دولة قلما كانت تشعر حيالهم بالغربة ؛ ربما بسبب الرابطة الدينية المشتركة التي كانت قائمة بين الجانبين. مع أن هؤلاء، لم يكونوا في حقيقة الأمر سوى أداة فعالة في يد دولة غريبة، كانت تجهد يومها عن كثب في مراقبة المجتمع الأهلي في الديار الشامية والسيطرة عليه.

40أما الدولة السورية، من النمط "الاستعماري" التي أقامتها فرنسا في سوريا بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، فلم تكن تتمتع بالحكم الذاتي، سوى تجاه المجتمع الذي كان يفترض أن تمثله وتديره. ذكرنا سابقا، كيف أن سلطة الانتداب الفرنسي كان لديها القناعة التامة بأن تنفيذ برنامج للتنمية الاقتصادية، هو من الجدية بمكان، لكي لا تسمح بترك أمر تنفيذه لدولة سورية حتى لو كانت "علمانية وليبرالية" !

41كانت فرنسا يومها مشغولة البال، حول كيف يمكن لها أن تخفض من تكاليف احتلالها للبلد، بدلا من أن تهتم بتلبية الحاجات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمجتمع سوري قيد التكوين، ولِـ (الدولة‑الأمة) السورية قيد الولادة. بيد أن "طبقة" جديدة من ذوي الياقات البيض رأت في نهاية الأمر النور يومها، لتنضم إلى الكوادر الإدارية التقليدية في البلد. لكنها، لم تكن تقلّ بيروقراطية ومركزية عن حكومة الجمهورية الفرنسية الثالثة التي استولدتها.

42كذلك عملت سلطة الانتداب على تحجيم النفوذ الاقتصادي، وبالتالي السياسي، للنخب السورية، إلى أن عملت ظروف الحرب العالمية الثانية على منحها تلك الفرصة. لكن، لتجد البورجوازية الوطنية الناشئة نفسها بعد الاستقلال في وضع تتهم فيه بعدم الجدية في خدمة الاقتصاد الوطني، ولتتعثر في جهودها لتطوير المنظومة الادارية، التي ورثتها منذ أيام "مركز التموين للشرق الأوسط" في القاهرة، بسبب قلة عدد الكادر الفني المتوفر يومها، ولنقص الخبرة في إدارة مجتمع لبلد نام. لكن أيضا بسبب الخلفية التاريخية التي تكلمنا عنها.

  • 5 Michel Seurat : « Les populations, l’État et la société », in André Raymond (éd), La Syrie d’aujour (...)

43حدث كل ذلك، ليقف الشعب السوري مجددا، منذ ستينيات القرن الماضي، إزاء دولة تسلطية تحل مكان تلك "الطبقة" البورجوازية المجهضة، وأخرى وسطى "ليبرالية" كانت قيد التكوين، لتتحكم لوحدها بالمنظومة الاجتماعية، ولتأسرها في شباكها، بل ولتحل بالتدريج مكان المجتمع السوري نفسه، "مختزلة إياه إلى مستوى منظمة سياسية" 5 تديره على هواها، دون حسيب ولا رقيب.

44نقف هنا عند هذا الحد، بعد توصيفنا للآلية التي تمت بموجبها بعد الاستقلال إعادة استنساخ طبعة أحدث للدولة من النمط "المملوكي"، أو للدولة "المدولتة"، أو "السلطوية"، كما تشاؤون تسميتها، دون الاسترسال أكثر في تحليلها وتوصيفها، لأن ذلك يتجاوز الفترة الزمنية التي اختطناها لبحثنا. لكنْ مرجئين ذلك إلى مستقبل قريب، في محاولة لاستكمال الإجابة على ما طرحناه من تساؤلات في كتابنا.

Notes

1 CADN, fonds Beyrouth, Dossiers de principes 1920‑1941, carton 726, Notes sur le Rapport des États sous Mandat français à la SDN sur l’exercice 1937 ; publié par M.E. Duchatel, Paris, mars 1939.

2 M. Ali El‑Saleh : Handel und Wirtschaftsstruktur Syriens im Zeitalter der Kreuzzüge, Inaugural Dissertation, Tübingen 1974 ; Idem, Syria between Islam and Secularity, seminary, University of Duisburg‑Essen/Germany, 2004.

3 العطالة الفيزيائية، بمعنى أن كل جسم مادي قاصر عن تغيير حالته من السكون أو الحركة ما لم تؤثر عليه قوة تغير من حالته.

4 الأوليغاركية أو حكم الأقلية هي شكل من أشكال الحكم بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية.

5 Michel Seurat : « Les populations, l’État et la société », in André Raymond (éd), La Syrie d’aujourd’hui, Centre national de la recherche scientifique, Paris, 1980, p. 90.

Le texte et les autres éléments (illustrations, fichiers annexes importés) sont sous Licence OpenEdition Books, sauf mention contraire.

Acheter

Volume papier

i6doc.com
Rechercher dans OpenEdition Search

Vous allez être redirigé vers OpenEdition Search