تمهيد

1في تقريرين لأستاذين في معهد العلوم الاجتماعية عن الفصل نفسه، من الأطروحة نفسها وللطالبة نفسها، وردت الجملة الآتية في تقرير القارئ الأول: «إن دراسة ست حالات في الفصل العاشر هي من جهة أولى غير كافية في بحث دكتوراه؛ ثم إنها جاءت من قبيل لزوم ما لا يلزم، لا سيما أن أرقام الجداول في الفصول السابقة قد أضاءت على هذه الحالات في الكثير منها من جهة ثانية» (التقرير رقم 29). أمّا القارئ الثاني، فقد أورد في تقريره ما يلي: «يأتي الفصل العاشر ليقدّم لنا صورة حيّة عن حالات الخريجين في أوضاعهم المختلفة؛ وهو ما يقدم لنا صورة واضحة عن حالات هؤلاء في نجاحهم أو تعثرهم أو يأسهم من إيجاد عمل متناسب مع اختصاصهم. وهو (أي الفصل) من أفضل ما جاء في هذه الأطروحة» (التقرير رقم 30).

2تقريران لأستاذين قارئين، وهما أستاذان مشهود لهما برأسمالهما الثقافي وسمعتهما الأكاديمية وإنتاجهما البحثي المنشور، وكلاهما يحملان الدكتوراه اللبنانية، من معهد العلوم الاجتماعية في الفترة نفسها؛ والأطروحة هي هي، والفصل هو هو، ومع ذلك التقييمان ليسا متقاطعين ولا متكاملين، بل هما متفرقان إلى حد التناقض! هذه الحالة ليست خاصة بمعهد أو جامعة معيّنة، بل هي تعبّر عن مشكلة منهجية عامة، على ما يبدو من خلال اهتمام الباحثين ومراكز الأبحاث بها ليس في لبنان وحسب بل كمشكلة منهجية عامة في البلدان كافة التي تدرّس العلوم الاجتماعية¹.

3هذان المدخلان العام (أزمة المناهج في العلوم الاجتماعية والإنسانية) والخاص (التمايز في تقارير الأساتذة-القراء لأطروحات الدكتوراه، حالة العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية) يُبرّران إعادة طرح موضوع هذا البحث.

أولًا – مقدمة منهجية

4يثير الواقع المنهجي الملتبس تساؤلات تشغل فكر الكثيرين من العلميين الاجتماعيين، تساؤلات تتعلق بمصدر هذا التشوش المنهجي، وتأثيراته على أساتذة العلوم الاجتماعية وطلابها: أيرتبط التشوش والالتباس بطبيعة العلوم الاجتماعية؟ أم بالعلميين الاجتماعيين والرساميل الثقافية وغير الثقافية التي يمتلكونها، وكيفية التصرّف بها؟ فالرساميل الثقافية لدى العلميين الاجتماعيين تختلف في ما بينها بسبب تنوّع البراديغمات في علم الاجتماع وتعدّد وجهات النظر وتنوّع المقاربات، وكلها أمور ترتبط بالعلم نفسه وبالسياقات التاريخية للظاهرة، وهي تُغني قراءتها وفهمها؛ أما التفاوت في الرساميل الثقافية، فيرتبط بدوره بتفاوت في التمكّن من العلم الاجتماعي نظريًا ومنهجيًا وتقنيًا؛ وهو نتاج تمايز بين الأساتذة، بين من يغلّب الرأسمال الثقافي للتدرج في التعليم العالي وصولًا الى إشغال موقع في هذا التعليم وفي الإشراف لاحقًا، وبين من يغلّب الرأسمال الاجتماعي للتدرّج في هذا المسار.

5في ظل التساؤلات أعلاه تتنامى الانتقادات التي تطال تقييم «المقالات والأبحاث العلمية للأساتذة»، وكذلك الأبحاث التي يعدّها الطلاب، وتحديدًا رسائل الماستر وأطروحات الدكتوراه؛ وهي تساؤلات يُلاحظها الباحث بنفسه، ويسمعها من زملاء وزميلات ومن طلاب وطالبات. وما التقارير التي يُعدّها الأساتذة-القراء لأطروحات الدكتوراه إلا حلقة ضمن مسار يعبّر في النهاية عن الرساميل الثقافية والاجتماعية والأخلاقية التي يملكها الأساتذة.

6ويُقصد بـ«الرأسمال الثقافي جميع الطاقات الثقافية التي يتمتع بها الفرد، وهي تضم المهارات والأدوات والمواقع المؤسساتية (ألقاب وشهادات). أمّا الرأسمال الاجتماعي، فيشمل جميع الطاقات التي تضع المرء في موقع قوة من حيث شبكة علاقاته الاجتماعية ودوره ومكانته» (معتوق، 2012، ص. 79). وبالنسبة للرأسمال الأخلاقي يُقصد به أنَّ لكل مهنة أخلاقياتها، وبالتالي لمهنة التعليم العالي والإشراف على البحث أخلاقياته، وإن يكن بعضها غير مكتوب؛ ومن يتهاون بتطبيق أخلاقيات المهنة يتسم برأسمال أخلاقي ضعيف والعكس صحيح. في ظل ظروف ضعف السلطات الرقابية المكلفة تطبيق القوانين والأنظمة المرعية، وفي ظل تشتت وضعف الجماعة العلمية، ينقسم الأساتذة في الحالة التي ندرسها إلى فريقين، فريق يستفيد من هذا التراخي فيتغيب عن الدروس، و/أو يتأخر عن الحضور، و/أو يتراخى في تصحيح الامتحانات، و/أو يُراعي البعض لأسباب غير أكاديمية، و/أو لا يلتزم بإعطاء ساعات الإشراف المطلوبة، و/أو لا يكون جديًا في اللقاءات مع الطلاب الذين يشرف عليهم/ن. وكذلك الأمر بالنسبة للقراء، فبعضهم يتّسم بعدم الجدية في القراءة، وبالتالي عدم إعطاء الملاحظات التي تصوّب العمل، خصوصًا لدى من يملكون هذه القدرة، و/أو كتابة التقارير بخفة إلخ… هذه الخفة أو عدم التعمق في القراءة يمكن أن يأتي نتيجة ضغوط سواء لجهة العدد الذي يشرف عليه الأستاذ، أم عدد الأطروحات المطلوب منه أن يناقشها إلخ… في المحصلة لسنا في صدد تقييم أخلاقي للتقارير، بل القصد هو الكشف عن تأثير الإهمال والتراخي من مُعد التقرير والذي يؤدّي الى خلل وظيفي نتيجة ضعف المراقبة والمحاسبة في المؤسسة التي يعمل فيها (حالة معهد العلوم الاجتماعية والمعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية).

7تهدف قراءة تقارير تقويم أطروحات الدكتوراه في العلوم الاجتماعية إلى:

• تصنيف تقارير تقويم الأساتذة-القراء لأطروحات الدكتوراه وفق الشكل والمضمون.
• الكشف عن نقاط التوافق في التقارير، أي الكشف عن السائد المنهجي الذي تتوافق عليه «الجماعة العلمية» في المعهد والذي يستخدمه الطلاب والطالبات في أطروحاتهم/ن.
• الكشف عن نقاط التمايز بين التقارير، وهو ما يتيح الكشف عن الخبرة التعليمية والبحثية، والموقف من التقويم.
• البحث عن عوامل التمايز بين تقويمات الأساتذة في محاولة لتفسيرها، واستخلاص بعض النتائج الأوليّة منها.

8القراءة النقديّة في هذا البحث لا تنطلق من «صندوق أسود»² للتقويم، بل هي تهدف إلى قراءة واقعية له، وإلى تقويم للتقويم الذي يُجريه الأساتذة-القراء لأطروحات طلاب/طالبات الدكتوراه في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، ولاحقًا في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، التي هي نتاج مسار تعليمي-بحثي، في الإعداد الجامعي وما قبل الجامعي، مسار تُبنى فيه رساميل متنوّعة، ثقافية واجتماعية، تؤدّي إلى تمايز بين الأساتذة، من جهة وبين نتاجات الطلاب الذين يعدّونها، من جهة أخرى.

9بالرغم من التعديلات التي طالت المناهج والبرامج في معهد العلوم الاجتماعية – الجامعة اللبنانية أكثر من مرة، وبالرغم من تفريع المعهد أثناء الحرب إلى خمسة فروع³، إلّا أنها جميعًا التزمت بتطبيق المناهج والبرامج نفسها؛ وبالرغم من أن تعيين الأساتذة-القراء للأطروحات يقتصر غالبًا على أساتذة من المعهد، مع تطعيم نادر لبعض اللجان بأعضاء من اختصاصات أخرى، وبالرغم من أنَّ المجال الذي تحضّر فيه الأطروحات هو العلوم الاجتماعية، مع ذلك نشهد تمايزًا في النتاج البحثي للطلاب من جهة، كما نشهد وهو الأهم في موضوع البحث هذا، تمايزًا في تقارير الأساتذة-القراء في تقويمهم للأطروحات؛ وهو ما يمكن اعتباره مألوفًا واعتياديًا لدى «الجماعة العلمية» بسبب تعدد المدارس. إلّا أن السؤال الذي يُطرح هو إلى أي مدى يرتبط التمايز في التقويم بين الأساتذة، إلى حد التناقض أحيانًا، بالتمايز في الرساميل الثقافية والاجتماعية والأخلاقية التي يمتلكونها؟

10يستبعد هذا البحث النظرة التقنية لموضوع التقويم، فالمسألة لا تقتصر على مجرد اتخاذ بعض الإجراءات كوضع أنموذج تقويم formulaire، أو غيره من الأمور اللوجستية، رغم أنّها تُشكّل عوامل مساعدة لضبط التقويم؛ بل هي أعمق بكثير من مجرد بعض الإجراءات الشكليّة أو التقنية.

11ينطلق البحث من الفرضية الأساسية الآتية: إن التقرير الذي يُعدّ في تقويم أطروحة الدكتوراه هو نتاج رساميل ثقافية واجتماعية وأخلاقية مهنية للأستاذ⁴؛ رأسمال هو بدوره نتاج مسار طويل من الإعداد التكويني الجامعي وما قبل الجامعي. ويرتبط التمايز بين التقارير بالرأسمال المحدِّد capital déterminant في المسار التكويني من جهة، والمهني للأستاذ الجامعي، تعليمًا وترفيعًا وإشرافًا، من جهة أخرى. وفيما يفترض في الحقل التعليمي أن يتقدم الرأسمال الثقافي على ما عداه من رساميل أخرى، بسبب خصوصية الحقل؛ إلا أنَّ مسار الجامعة اللبنانية ما بعد الحرب الأهلية، التي أدّت إلى التفريع وبالتالي إلى التدخل السياسي في شؤونها، يؤدّي إلى افتراض أنه كلما كان الرأسمال الثقافي-الأخلاقي⁵ هو العامل المحدِّد في مسار الأستاذ التكويني والمهني ينعكس ذلك تميّزًا في ما يُعدّ من تقارير، وكلما كان الرأسمال الاجتماعي-الأخلاقي هو المحدِّد في هذا المسار ينعكس سلبًا على نوعية التقارير.

12يرتبط التمايز بين تقارير الأساتذة، بخصوص نوعيّة التقويم، بجملة من المتغيرات المستقلة، منها:

• تأثير الإعداد التعليمي والبحثي للأستاذ على نوعية التقويم.
• تأثير خبرة الأستاذ البحثية على نوعية التقويم.
• تأثير الاختصاص على نوعية التقويم.
• تأثير الإطار المؤسساتي (غياب المحاسبة أو فعاليتها، غياب المعايير أو حضورها، تعيين القرَّاء وعلاقتهم بالاختصاص، تعيين اللجان الفاحصة) على نوعية التقويم.
• تأثير الجماعة العلمية (حضور/غياب، منظمة/مشتتة) على نوعية التقويم.
• تأثير كثافة العمل سلبًا على نوعية التقويم.
• تأثير ضعف الرأسمال الأخلاقي (تواطؤ، محاباة بين أعضاء اللجنة) على نوعية التقويم.

13يعتمد البحث على ثلاثة مصادر للبيانات: المصدر الأول هو عينة من التقارير التي أعدها أساتذة في معهد العلوم الاجتماعية⁶، وهذه العينة ليست ممثّلة لجهة عدد وحداتها (30 تقريرًا⁷)، ولا لجهة المراحل الزمنية التي أُنجزت فيها الأطروحات، إلا أن أهميتها تكمن في الدلالات الأولية التي يمكن استخلاصها منها، والتي ستساعد في التوسع بالمشروع لاحقًا. المصدر الثاني هي الملاحظات المباشرة بالمشاركة observation directe participante للباحث من خلال الممارسة الأكاديمية في معهد العلوم الاجتماعية⁸. والمصدر الثالث هو بيانات المقابلة نصف الموجهة مع مديرة المعهد العالي للدكتوراه في جامعة إكس مارسيليا Aix-Marseille في فرنسا⁹، وبعض أساتذة في المعهد نفسه، وكذلك مع أربعة أساتذة في معهد العلوم الاجتماعية في لبنان.

14يستخدم الباحث في قراءة التقارير تحليل المضمون analyse de contenu لإجراء تحليل مقارن بينها. فمن جهة، يُظهر المشترك والمتمايز شكلًا ومنهجًا ومضمونًا، وإجراء تحليل نقديّ، من جهة أخرى، حول وظيفة التقويم في هذه المرحلة والعوامل المؤثّرة فيه.

ثانيًا – سياق التقويم

يخلط أو يدمج الكثير من الباحثين بين مصطلحي «التقويم» و«التقييم»… وعلى الرغم من أن المصطلحين يفيدان في بيان قيمة الشيء… يرى بعض النحاة أن كلمة «التقييم» خطأ، ويوجبون استعمال «تقويم» بدلًا منها. والواقع هو أن «التقييم» منشق من القيمة، و«التقويم» من القوام؛ ومعنى الأول التقدير والتثمين، ومعنى الثاني التعديل… كلمة «التقويم» صحيحة لغويًا، وهي الأكثر انتشارًا في الاستعمال بين الناس، كما أنها تعني بالإضافة إلى بيان قيمة الشيء، تعديل أو تصحيح ما اعْو…جَّ منه… ومن هنا نجد أن كلمة «التقويم» أعم وأشمل من كلمة «التقييم»؛ حيث لا يقف «التقويم» عند حد بيان قيمة شيء ما، بل لا بد كذلك من محاولة إصلاحه وتعديله بعد الحكم عليه (خضر، 2013).

15يُستخدم في هذا البحث مصطلح التقويم لأن الأساتذة في قراءتهم للأطروحات يضعون ملاحظات نقديّة لمحتوياتها، وغالبًا ما تنتهي التقارير بعبارة الأطروحة صالحة للنقاش في حال أو مع ضرورة أخذ الطالب/ة بالملاحظات، وهذا يعني ربط المناقشة النهائية بالتقويم.

16للتقويم أنواع ثلاثة، تقويم قبلي (مسبق)، ومتزامن (تكويني)، وبعدي (لاحق)¹⁰. يطال التقويم القبلي عادةً الممارسات التخطيطية لمشروع ما. ويُعالج هذا البحث تقارير التقويم في مرحلة الدكتوراه. يتقدّم الطالب/ة عادة بمشروع بحثي كموضوع للدكتوراه، بعد الحصول على موافقة أستاذ للإشراف عليه، وتُعيّن الإدارة لجنة لتقويم المشروع، أي لقبوله أو رفضه.

17أمّا التقويم المتزامن أو التقويم التكويني، فهو يطال متابعة طالب الدكتوراه، التي كانت تقتصر في النظام القديم على علاقة ثنائية بين الطالب والمشرف مع دور محصور جدًا للإدارة (التسجيل السنوي)؛ وقد طرأ تعديل على النظام القديم بعد استبداله بنظام الـ LMD وبات يُلزم الطالب بمتابعة عدد من الندوات البحثية (السيمينارات) وأن يُشارك بعدد من المؤتمرات، وأن ينشر بحثًا على الأقل. يقتصر هذا البحث على التقارير حول الأطروحات التي تخضع للنظام القديم، أي ما قبل تطبيق نظام LMD ¹¹.

18والتقويم البعدي أو اللاحق، يطال العمليتين التعليمية والبحثية أيضًا؛ وينطبق في حالتنا على مستويين، المستوى الأول أطروحة الدكتوراه باعتبارها النتاج النهائي للمسيرة التعليمية والبحثية للطالب/ة في المعهد، وبإشراف أستاذ، والمستوى الثاني تقارير الأساتذة-القراء. ويمكن تطوير هدف البحث لاحقا لتطال الأطروحات، ومقارنة مضمون التقارير مع مضمون الأطروحات كما صيغت بحالتها النهائية، والتعرف على مدى التزام الطالب بالملاحظات التي وضعها الأساتذة-القراء.

19تعتمد المؤسسات على أنواعها التقويم لقياس جدوى المشاريع قبل إقرارها، ولمواكبة المشروع بعد إقراره وأثناء اشتغاله، ولفحص المنتوج النهائي بعد إنجازه.

20معهد العلوم الاجتماعية، الذي يشكّل أحد مكونات الجامعة اللبنانية، الجامعة الوحيدة العامة في لبنان، يعتمد منذ تأسيسه التقويم في مساره الأكاديمي التعليمي والبحثي.

21اتسمت مسيرة المعهد الأولى، الذي أُنشئ في العام 1959 بمبادرة من الحكم الشهابي الإصلاحي، نتيجة الحاجة آنذاك إلى مؤسسة تُخرّج الكوادر التي يمكنها أن تُساهم في بناء دولة المؤسسات الحديثة، وذلك على عكس الكليات الأخرى التي شهدت نضالات طلابية ووطنية لإنشائها، بالجِديّة والسمعة الجيدة والمستوى الأكاديمي المشهود له (الأساتذة من خريجي جامعات فرنسا، ومن الجِديين في التعليم، وهناك استقبال لأساتذة زائرين من فرنسا، وتدريب على أعمال ميدانية جِديّة، وتقويم لا يعتمد إلا الكفاءة، ومركز أبحاث منتِج ولو بحدود، ومكتبة فيها تنوع بالمراجع، خصوصًا الأجنبية والفرنسية بخاصة). لكنها لم تكن مسيرة خالية من المآخذ (بعض الأساتذة غير الكفؤين، الإبقاء على التفاوت في اللغات الأجنبية من دون حل، مركز أبحاث ناشط في الأبحاث الفردية من دون تأسيس لفرق بحثية وغيرها من المآخذ). ثم أتت الحرب الأهلية، عام 1975، لتترك آثارًا سلبية على الجامعة ككل، ومن بينها معهد العلوم الاجتماعية. فقُسم المعهد إلى خمسة فروع، لكل منها مدير، وهو منصب جديد شكّل المدخل للتدخل الفاضح للأحزاب السياسية الطائفية في أوضاع المعهد. ولأن التفريع قرّب الجامعة من الأرياف، وأبطل مفعول مركزية التعليم، فقد شهد المعهد تدفقًا طلابيًا، أنثويًا خصوصًا، ومن المدارس العامة تحديدًا، بسبب عوامل جاذبة (3 سنوات للحصول على الإجازة، لا مباراة دخول، الحضور غير إلزامي، إلخ…). وأبرز نتائج التفريع السلبية أنّه أضعف «الجماعة العلمية» ذات الكفاءة وشتّتها، وبدأت مسيرة تغليب الرأسمال الاجتماعي على الرأسمال الثقافي في التعيينات الجديدة للأساتذة والموظفين، كما أدّى إلى شلل مركز الأبحاث بسبب الموازنة الهزيلة المخصّصة له، وغياب دافعية التنشيط لدى إدارته الأكاديمية. إلى كل ذلك، شكّل إصدار المرسوم 900 للعام 1983، الذي يجيز منح شهادة الدكتوراه من المعهد، مدخلًا للإنتاج المحلي للدكتوراه اللبنانيّة، والذي أضعف المسار السابق، أي التخصص خارج لبنان. شكّلت هذه العوامل مجتمعة السياق الذي أحاط ويحيط بالتقويم الجامعي بمستوياته كافة من السنوات الأولى إلى الإجازة، فالديبلوم والدكتوراه.

22والتقويم هو إحدى الوظائف الأساسية لأي مؤسسة تعليمية من أجل اصطفاء الأكفأ من بين الطلاب. لكن التقويم لا يتم في فراغ بل ضمن سياقات وظروف معينة؛ فالرأسمال الاقتصادي يلعب دورًا في الاصطفاء بين الطلبة الجامعيين في لبنان، حيث يتوجّه أبناء الفئات الميسورة عمومًا إلى جامعات خاصة ذات سمعة جيدة، بينما يتوجّه إلى الجامعة اللبنانية بشكل أساسي أولاد الفئات الشعبية وذوي الدخل المحدود؛ إلا أنَّ هذا الرأسمال الاقتصادي، كمتغير مستقل، يبطُل تأثيره في حالتي معهد العلوم الاجتماعية والمعهد العالي للدكتوراه، كمكوّنين من مكوّنات الجامعة اللبنانية. في ضوء ضعف تأثير الرأسمال الاقتصادي، تلعب الرساميل الأخرى الثقافي والاجتماعي والأخلاقي أدوارًا مؤثّرة.

23وفي سياقات تاريخية ولأنَّ نظام التعليم العالي يتمتع باستقلالية كبيرة، يُشكّل الرأسمال الثقافي المتغيرَ المستقل الأساسي في تحديد النجاح أو الفشل، والتعيين في الجامعة أو عدمه، والترقي الأكاديمي او عدمه، نظرًا لخصوصية حقل البحث، أي حقل التعليم الجامعي. لكن في ظل نظام التعليم العالي في الجامعة اللبنانية العامة، الذي يشهد ضعفًا في سلطة المؤسسات، واختلال الانتظام المجتمعي السياسي، وضعف الرقابة والمحاسبة في الجامعة عمومًا، يتراجع دور الرأسمال الثقافي لمصلحة رساميل أخرى، ومنها الرأسمال الاجتماعي والأخلاقي، ليلعبا دورًا أساسيًا في الاصطفاء. فالعلاقات السياسية الطائفية التي تصدرت العلاقات الأخرى بعد الحرب، والتي ينتظم معظم الأساتذة في شبكتها، أصبحت معيارًا مهمًا في «التقويم الإيجابي كذلك العلاقات القرابية والعاطفية» سهّلت «تنجيح» بعض الطلاب/الطالبات، ومن ثم تعيينهم –من خلال استخدام الرساميل نفسها– في الجامعة كأساتذة. هذا الواقع المستجد زاد في الوقت نفسه من ضعف وتهميش «الجماعة العلمية».

24أساتذة المعهد جميعهم يمارسون التقويم في الامتحانات. أمّا تقويم أطروحات الدكتوراه، فتتطلّب أن يكون المشرف برتبة أستاذ، أي لديه أبحاث تخوّله الحصول على الرتبة. كذلك بالنسبة للأساتذة-القراء ولجنة المناقشة عادة ما تُشكّل ممّن لديهم رتبة أستاذ. إلا أنّ «عالم البحث والتعليم العالي لم يهدأ منذ سنوات عدة بسبب إصابته بحمى التقويم»، بحسب تعبير إيف جينغراس Gingras. ومع أن سياق النص مختلف عن السياق اللبناني، إلا أن تعبير «الحمى» أكثر ما ينطبق على الحالة اللبنانية في مجال الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية حاليًا، فهناك عدوى الأساتذة واستسهال الوصول اليها لأنَّ من يمتلك رأسمالًا اجتماعيًا (رصيد من العلاقات الحزبية، و/أو الطائفية، و/أو القرابية أو غيرها)، يجيّره كقوة تثقيل للرأسمال الثقافي البسيط الذي يرتكز إلى سهولة في الكتابة والنشر إذ هناك دور نشر تجارية عديدة في لبنان تنشر للمؤلّف بمجرد أن يدفع المبلغ المحدد للطباعة والنشر، من دون اشتراط أن يكون محكّمًا. أضف إلى ذلك أنَّ البعض من الأساتذة ينشر على حسابه ومن دون دار نشر، وبالتالي من دون أي تحكيم. كما أنّ البعض يتقدم بمقالات قدّمت في مؤتمرات محلية أو عربية، ولكنها لم تخضع لأي تقويم قبل نشرها، ما يطرح إشكاليات عديدة حول قيمة ما ينشر من كتب أو مقالات. كل ذلك من أجل الحصول على لقب «البروفسور»!

25في ضوء ذلك تجلّت ثلاثة مواقف للأساتذة-الباحثين في معهد العلوم الاجتماعية من تقويم الأبحاث:

26فئة اللاهثين من أجل التقويم، فالترقي الأكاديمي ليس أمرًا روتينيًا، بل يتطلّب أبحاثًا جدّية تخضع للتحكيم من لجنة علمية ضليعة في الاختصاص. لكن بعد إقرار الدكتوراه اللبنانية في المعهد (المرسوم 900/83)، والطلب الشديد على التعلّم خصوصًا في الكليات ذات الانتساب المفتوح، ومن ثم تدفق الخريجين بسبب التراخي في التقويم والنقص في فرص العمل، كل ذلك شكّل طلبًا اجتماعيًا ضاغطًا على متابعة الدكتوراه بالتزامن مع التساهل المؤسسي في متابعة هذه المرحلة، وهو ما يتطلّب زيادة في عدد من لديهم رتبة أستاذ للإشراف على هؤلاء الطلاب. هذا السياق دفع بعض المتخرجين حديثًا، الذين لم تختمر تجربتهم/ن البحثية نسبيًا، إلى «اللهاث من أجل الحصول على الرتبة» بإجراء أبحاث سريعة ومتسرعة، والسعي إلى تقويمها من أجل الترقي، معتمدين في ذلك على رأسمالهم الاجتماعي أكثر من رأسمالهم الثقافي¹².

27فئة المستنكفين عن التقويم، فعلى الرغم من التقويم الجِدّي الذي يُمارسه بعض الأساتذة، إلا أن وجود تقويم مدبّر ومنظم، لمن لا يستحق، شكّل حجة لدى فئة قليلة من الأساتذة-الباحثين للاستنكاف عن تقويم أبحاثهم، وهي تضم فئتين فرعيتين: فئة أولى «مترفّعة» عن تقويم أبحاثها من قبل زملاء تنظر إليهم نظرة دونيّة ومن منطلق استعلائي، ليس بالضرورة أن يكون صحيحًا في كل الحالات؛ وفئة ثانية من مستنكفين، لا يثقون بجودة أبحاثهم ويخشون من تقويم سلبي ينعكس على «صورتهم المنتفخة» أمام زملائهم وطلابهم، فيشكّل الاستنكاف مخرجًا من المأزق¹³.

28وأخيرًا، فئة القابلين بالتقويم، فعلى الرغم من مآخذها على نظام التقويم وانتقادها لبعض الممارسات فيه، إلا أن أساتذة هذه الفئة يقبلون بالخضوع له انطلاقًا من ثقتهم وجديتهم في الأبحاث التي يقدمونها، وأملًا بالترقي الأكاديمي، سواء للإشراف على أبحاث ام للحصول على المردود المعنوي والمادي للرتبة.

ثالثًا – قراءة في التقارير

خصائص العينة

29تجدر الإشارة أولًا إلى أن العينة غير ممثلة، وهي تقتصر على 30 تقريرًا، إنما يمكن الاستدلال من خلالها على وضع التقويم لأطروحات الدكتوراه في العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية. يشترط نظام الدكتوراه تعيين أستاذين-قارئين¹⁴ على الأقل لكل أطروحة، وتقديم تقرير من كل منهما إلى الإدارة المعنية، أي العمادة. يبلغ عدد التقارير التي تم الحصول عليها 30 تقريرًا تتناول 20 أطروحة. هناك 11 أطروحة يتوافر لكل منها تقرير أستاذ واحد، ورغم أن كل هذه التقارير لا تتيح إمكانية مقارنتها مع تقرير لأستاذ آخر حول الأطروحة نفسها، إلا أن قراءة هذه الفئة من التقارير تكشف عن خلفية معد التقرير وأسلوبه والمنهجية التي يعتمدها في التقويم. وهناك 8 أطروحات حظي كل منها بتقريرين لأستاذين، وهي تتيح إمكانية المقارنة بين تقويمين لأستاذين حول الأطروحة نفسها لجهة التشابه والتمايز بينهما. أطروحة واحدة في العينة وُضعت لها 3 تقارير من 3 أساتذة¹⁵.

30هناك أستاذان أعد كل منهما 3 تقارير لـ 3 أطروحات، و4 أعد كل منهم تقريرين، أي 6 أساتذة من بين 20 أستاذًا أعدوا 14 تقريرًا من مجموع 30 تقريرًا، بينما 16 أستاذًا أعدوا 16 تقريرًا، وهذا يكشف أحيانًا عن محاباة في تعيين اللجان.

31إن مسألة الإحالة إلى قرّاء هي مسألة إشكالية. فالإحالة هي من صلاحيات عمادة المعهد (العلوم الاجتماعية سابقًا، والمعهد العالي للدكتوراه حاليًا). وهي، في ظل غياب قاعدة بيانات حول اختصاصات الأساتذة وأبحاثهم، السابقة والراهنة، ومجال تعليمهم، تفسح المجال للعميد بشكل أساسي لاتخاذ القرار، حيث تلعب اعتبارات غير أكاديمية أحيانًا دورها في تعيين اللجان. وفي السنوات الأخيرة بسبب غياب قاعدة البيانات، وعدم المعرفة المباشرة لعمادة المعهد العالي للدكتوراه باختصاصات الأساتذة في العلوم الاجتماعية وبأبحاثهم، يتم الاستئناس برأي الأستاذ المشرف في اقتراح أسماء اللجنة، وهنا يُرصد توجّهان، توجّه لدى أساتذة يريدون تطوير أطروحات طلابهم فيقترحون أسماء تأخذ بالاعتبار مدى جِديّة الأستاذ وسمعته واختصاصه وقدرته على تقويم الأطروحة، وتوجّه ثان لأساتذة يُغلّب المحاباة والتساهل في اقتراح أسماء اللجنة، لأن الهم لديهم «إنقاذ طلابهم» من مناقشة جِديّة. تأخذ العمادة غالبًا باقتراحات الأستاذ المشرف مع تعديلات طفيفة أحيانًا.

32يتراوح عدد صفحات التقارير ما بين حد أدنى 2 صفحتين فما دون، وحد أعلى يصل إلى 19 صفحة. يبلغ المعدل الإجمالي لعدد صفحات التقارير 6.3 صفحة للأطروحة الواحدة. ليس حجم التقرير بحد ذاته معيارًا للتقويم الجيد، إذ يمكن لصفحات قليلة مكثّفة تطرق الموضوع بالعمق أن تكون أثمن أكاديميًا من صفحات كثيرة تغرق بالشكليات والتفاصيل، إلّا أن المشكلة تكمن أحيانًا في المضمون الهزيل لبعض التقارير القصيرة، كما المضمون الشكلي لبعض التقارير الطويلة.

33يكتسب التقويم أهمية خاصة انطلاقًا من السياق اللبناني، ومن كل المآخذ على الإعداد النظري والمنهجي والبحثي للطلاب في السنوات ما قبل الوصول إلى مرحلة الدكتوراه. ولطالما ردد ويردد الأساتذة مقولة «لا يُصلح التقرير ما أنتجه الإعداد»، ومع ذلك فالمتوقع من كل أستاذ-قارئ أن يُبدي كل ما لديه من ملاحظات مفيدة لتطوير الأطروحة، وعدم القيام بذلك هو هروب من واجبين يرتبط أحدهما بالأكاديميا والآخر بالأخلاق المهنية¹⁶. يبيّن التحليل هذا الصنف من الاستهتار في إعداد التقارير، ويثير جملة من الأسئلة حول دور كل من المواقع الأكاديمية: المعادات المتعاقبة¹⁷، والمجالس العلمية، ولجان المناقشة، والإشراف، في الاستمرار بهذا السلوك في الحياة الأكاديمية.

34يتبيّن أن معظم الأساتذة (ثلاثة أرباعهم)، 14 أستاذًا من مجموع 20 أستاذًا، يطبعون تقاريرهم، وتشمل هذه الفئة أساتذة من الذين أحيلوا إلى التقاعد، وأساتذة لا يزالون في بدايات الخدمة الفعلية. أمّا التقارير الثمانية التي كتبت بخط اليد فتتوزع على ستة أساتذة، وتشمل المراحل الأربع أعلاه؛ من بينهم ثلاثة التحقوا بركب الطباعة، بينما استمر ثلاثة آخرون حتى تقاعدهم بكتابة التقارير بخط اليد.

35أمّا لغة التقارير فقد كتبت باللغة العربية¹⁸ (29) تقريرًا، باستثناء واحد أُعدّ باللغة الفرنسية، فمعظم الأطروحات تكتب باللغة العربية.

36كذلك 29 من مجموع 30 تقريرًا قدّمت إلى عمداء للمعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، و26 من مجموع 30 تعود للعامين 2016 و2017، ومعظمها قدّم للعميد الحالي للمعهد، وهو دليل على أن العينة غير ممثّلة لكل المراحل، لكن أغلب المشرفين والقراء للأطروحات في المعهد العالي للدكتوراه، ممّن لديهم رتبة الأستاذية في معهد العلوم الاجتماعية، ممثلون في هذه العينة.

37على الرغم من العدد القليل للتقارير إلا أنها تشمل تشكيلة متنوعة من الاختصاصات تتوزّع على الميادين الآتية: التنمية الاجتماعية-الاقتصادية (8)، علم الاجتماع السياسي (6)، علم اجتماع العمل (4)، وعلم اجتماع التربية (3) والجريمة (3) والعائلة (2)، ومن ثم الأنثروبولوجيا (2) والمعرفة (2).

38تجدر الإشارة إلى أن التشوّش المنهجي مصدره أحيانًا إشراف بعض الأساتذة على أطروحات لا تندرج مواضيعها ضمن اختصاصهم الدقيق، والسبب في ذلك يعود إلى التدفق الطلابي في مرحلة معينة من جهة، والنقص بعدد الأساتذة الذين يحق لهم الإشراف، من جهة أخرى، وهو ما ينعكس سلبًا على نوعية الأطروحات.

39يتبيّن من توزع الأساتذة المشرفين على الأطروحات التي أعدّت أن أستاذين من الفرعين الخامس والثاني تصدّرا الإشراف بنسبة 3 أطروحات لكل منهما، يليهما أساتذة من الفرعين الأول والرابع وقد بلغت النسبة أطروحتين لكل أستاذ. وأخيرًا الفرع الثالث وفيه حصل الأستاذ الواحد على أطروحة. تمثّل هذه العينة 30 تقريرًا تسعة منها لأساتذة مشرفين برتبة أستاذ، والتقارير تطالهم بشكل غير مباشر، و22 أستاذًا كقرّاء من بينهم 21 برتبة أستاذ، وواحد أستاذ مساعد. يبلغ عدد الأساتذة من المعهد 28 أستاذًا وأستاذين من خارج المعهد.

40كما يتبيّن أن العلاقة عكسية بين عدد الأطروحات التي أشرف عليها أستاذ من الفروع الأول والثاني والخامس، وبين عدد التقارير التي أعدها أساتذة من الفرع نفسه، والعلاقة طردية في الفرعين الرابع والخامس.

41غالبًا ما تتكون لجان المناقشة من أساتذة من معهد العلوم الاجتماعية، والنقص في رتبة أستاذ في المراحل الأولى كانت تدفع بالعمادات إلى تطعيم اللجان بأساتذة من خارج المعهد؛ وحتى بعد إنشاء المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وبسبب انفتاح الاختصاصات على بعضها، ولو أنّ هذا الانفتاح يقتصر على مستوى اللجان العليا التنظيمية في المعهد، فالملاحظ الاستمرار في تعيين بعض أساتذة من خارج المعهد العلوم الاجتماعية في بعض اللجان. وفي الحقيقة أن هذا الإجراء أثبت، وإن نسبيًا، نجاعة، لأنه يحيّد تأثير علاقة الصداقة بين القرّاء من خارج المعهد وبين الأستاذ المشرف؛ وفي معظم هذه الحالات يُضفي هذا الوجود «الغريب-الخارجي» جدّية أكثر، وتساهلًا أقل في القراءة والمناقشة. في بعض الحالات تكون التجربة سلبية، حين يكون من يُعيّن من خارج المعهد على علاقة بالأستاذ المشرف أو بالطالب، أو حين يفترض من عُيِّن من خارج الكلية أنّه المؤتمن على المستوى، وبالتالي يُعاند في التقويم ويتشدّد في إعطاء العلامة. كذلك يُفترض في إطار انفتاح الاختصاصات على بعضها ألّا يقتصر التعيين على الاستعانة بآخرين من كليات أخرى، ولا يُستعان بالاختصاصيين في العلوم الاجتماعية لمناقشة طلاب الاختصاصات الأخرى في المعهد العالي، وألا تقتصر على أشخاص معينين بل أن يحكم الاختصاص الدقيق الاختيار.

تقويم التقويم

42ينطلق البحث من التمايز في إعداد التقارير حول أطروحات الدكتوراه، تمايزٌ يرتبط بالرساميل الثقافية للطلاب كمعدّين للأطروحات، وبالمشرفين كمقوّمين متابعين للطلاب، وبالأساتذة-القراء كمقوّمين لاحقين عبر التقارير التي يعدّونها. والأطروحة هي نتاج لهذا الترابط بين حلقات الإعداد والتكوين والإشراف والتقويم. وهي حلقات تحتاج كل منها إلى تحليل معمق. أمّا حدود هذا البحث فتقتصر على تحليل عينة من تقارير الأساتذة-القراء (أي تُمارس التقويم اللاحق) بهدف إظهار، من خلال المقارنة، التمايز والتشابه في قراءة الأطروحات. إنّ غياب الأنموذج formulaire، الذي تعتمده المؤسسة من أجل قراءة الأطروحات، يقتضي بناء شبكة قراءة grille de lecture خاصة ترتكز على أدبيات ومتطلّبات الأبحاث في العلوم الاجتماعية ومراحل منهجيّة متفق عليها من قبل «الجماعة العلمية»، وإن اختلفت تسمياتها.

43تتناول الملاحظات حول التقارير الشكل (اللغة وأسلوب التعبير والصياغة، وبناء الجداول والرسوم البيانية، وتقسيم الموضوع، وكتابة المراجع والهوامش وما يتعلق بها من ملاحظات)، والمنهج (وخصوصًا حضور الإشكالية ووضوح صياغتها وتماسكها، وكذلك بالنسبة لنموذج التحليل، أي بناء المفاهيم والفرضيات ومدى علاقتها بموضوع البحث، وكذلك المنهج/المناهج الكمية والنوعية المستخدمة في البحث والتقنيات ومدى ملاءمتها للموضوع)، والمضمون (الإطار المرجعي النظري للموضوع، والعلاقة العضوية بين النظري والميداني، والتماسك في معالجة أبعاد الموضوع، والتماسك في التحليل والقدرة على التفسير).

44بعض المتمرّسين بالبحث السوسيولوجي يَرَوْن أنّ الملاحظات التي يتصدّى لها هذا البحث هي من بديهيات البحث العلمي الاجتماعي ولا تستأهل العناء والجهد؛ إلّا أنّ ما سيُعرض من مشكلات منهجيّة بين الأساتذة ليست خاصة بالعلوم الاجتماعية في لبنان، بل هي تمثل حالة عربية، وما الدعوة إلى مؤتمر «إشكالية مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية» في العام 2019 في قطر سوى استجابة لهذه الحاجة المنهجية.

ملاحظات تتعلّق بالشكل

45وهي تتناول الأخطاء اللغوية والطباعية والجداول والمراجع وحجم الأطروحة.

الأخطاء اللغوية والصياغة

46قليلة جدًا التقارير التي خلت من ملاحظة حول هذا النوع من الأخطاء. أربعة تقارير فقط من ثلاثين تقريرًا خلت منها. في تقويم لإحدى الأطروحات من طرف ثلاثة قراء¹⁹ كتب الأول حول الأطروحة ما يأتي «ثمّة أخطاء لغوية ومطبعية في الأطروحة، وإن قليلة، ولكنها تؤثّر سلبًا على المضمون» (التقرير رقم 1). وكتب القارئ الثالث للأطروحة نفسها في تقريره «لقد عثرت في هذه الأطروحة على أكثر من خمسة وثمانين خطًا لغويًا فادحًا…» (التقرير رقم 3). أمّا القارئ الثاني فلم يشر إلى مسألة الأخطاء اللغوية والمطبعية لا من قريب ولا من بعيد (التقرير رقم 2). هذه عينة عن المواقف من هذه الأخطاء التي تتكرّر بصيغ متعدّدة، وتكشف عن تمايز ضمن التوافق إذ توسع أحد القراء (التقرير رقم 3، اختصاص حقوق) بالملاحظات الشكلية وبتقسيمات البحث وخصص لها حوالي 6 صفحات من 9، أي 2/3 التقرير، بينما خصص لها القارئ الآخر (التقرير رقم 1) صفحة من 3 صفحات، أي 1/3. وعادةً ما يقترح الأساتذة-القراء على الطلاب «ضرورة عرض الأطروحة على مدقق لغوي» (التقرير رقم 14)، ويعني هذا الاقتراح أن الطالب غير قادر على تصحيح الأخطاء؛ لكن بسبب الكلفة المالية يتجنب بعض الطلاب إحالة أطروحاتهم الى مدقق لغوي. في معظم المناقشات العلنية النهائية للأطروحات هناك ملاحظات من أساتذة حول كم الأخطاء اللغوية والمطبعية الذي تتضمّنه؛ ومن الملفت أن التقارير التي يضعها الأساتذة لم يخلُ بعضها من أخطاء لغوية و/أو طباعية، وهي إمّا نتيجة تسرّع في إعداد التقرير، أو نتيجة جهل ببعض قواعد اللغة العربية!

47تشير معظم التقارير، خصوصًا في الأطروحات الحديثة زمنيًا، الى مشكلة الصياغة المرتبكة، وإلى عدم الوضوح «نرى أن بعض الجمل أو الفقرات بحاجة إلى صياغة أو إعادة صياغة كما في الفقرتين…» (التقرير رقم 14). أضف إلى ذلك «التكرار الممل والاستطراد من دون أن يخدم ذلك هدف البحث».

48في كل الأحوال، يفتح هذا النوع من الأخطاء الباب واسعًا على قضية التربية والتعليم في لبنان من المدارس الابتدائية وصولًا إلى الجامعات، حيث يُلاحظ تراجع في مستوى تعليم اللغة العربية، مّا يتطلّب معالجة من الأساس، وليس حين الوصول إلى الجامعة²⁰.

بناء الجداول

49يلاحظ بعض الأساتذة-القراء في الدراسات الكمية أخطاءً في بناء الجداول الإحصائية، ويشيرون إليها والبعض الآخر لا يكترث لذلك إمّا لعدم معرفة بالإحصاء، وإما تجاهلًا بسبب التسرع في القراءة. يعيد وصول طالب/ة الى إعداد أطروحة وعدم تمكنه من بناء جداول صحيحة طرح مسألة الإعداد الجامعي وظروف نجاح الطلاب ومدى جديّة التقويم المتزامن الذي يخضعون له، من دون تمكنهم من بعض المهارات؛ كما يثير التساؤل عن دور الأستاذ المشرف ومدى الجديّة و/أو الخبرة في الإشراف!

المراجع

50ترد في التقارير ملاحظات حول كيفية كتابة المراجع، فهناك الطريقة التقليدية التي يصر بعض الأساتذة عليها، ويوجهون ملاحظات نقدية لمن يستخدم الطرق الحديثة كالـ APA؛ ملاحظات عديدة تتناول المراجع سواء لجهة عدم ذكر تاريخ المرجع، والمرجع نفسه، والمرجع السابق إلخ… (التقرير رقم 3 مثلًا)؛ إلا أنّها لم تُثر اهتمام بعض القرّاء (التقريران 1 و2)، بينما في تقارير أخرى هم أنفسهم يتوسعون بها!

51يُلاحظ ميل عام لدى بعض الطلاب، وبتشجيع أحيانًا من بعض الأساتذة المشرفين، إلى وضع لائحة طويلة جدًا من المراجع التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة، للدلالة على جهد الطالب وجديته وإمّا كمحاولة للإبهار: «اعتمدت الطالبة في بحثها على مجموعة من المصادر والمراجع التاريخية… عدد المراجع 285 مرجعًا، 234 مرجعًا باللغة العربية، و51 مرجعًا باللغة الأجنبية الإنكليزية، ويضاف إلى ذلك الاعتماد على 10 مراجع إلكترونية… على ما يبدو أن وضع هذه المراجع في الملحق هو للتزين أو الديكور… فأغلب المراجع لم تُعتمد في النص» (التقرير رقم 6).

عنوان الأطروحة

52تتوزّع عناوين الأطروحات بين العناوين العامّة جدًا والخاصّة جدًا. ولأن الظاهرة السوسيولوجية هي ظاهرة عامة، ولها خصوصية تتجسّد في زمان ومكان محدّدين، لذلك يرى البعض أن على العناوين السوسيولوجية أن تعبّر عن العام أولًا، ومن بعد ذلك يوضع عنوان يعبّر عن خصوصية الظاهرة. في أطروحة بعنوان «الخريجون وسوق العمل: ديناميات التمايز. دراسة الحالة اللبنانية»، لم يُثر العنوان أي ملاحظة لدى القارئ الأول (التقرير 27)، بينما القارئ الثاني كتب: «من المتعارف عليه أكاديميًا أن تحديد العنوان في بحث يعود للعلوم الاجتماعية يتم وفق معادلة من العام إلى الخاص… فدراسة الحالة اللبنانية هي عام وليس خاصًا… ويقترح المقوّم بدل الحالة اللبنانية وضع «دراسة حالة خريجي اللبنانية والعربية والأميركية واليسوعية» (التقرير 28)؛ نصح الأستاذ المشرف الطالبة بعدم الأخذ بالملاحظة انطلاقًا من أن الخريجين وسوق العمل هي ظاهرة عامة، وعلاقة الخريجين بسوق العمل في لبنان هي الحالة الخاصة.

التوازن الكمي بين الفصول

53تعاني بعض الأطروحات من خلل في التقسيم الكمي للأقسام و/أو للفصول، وعليه نجد في التقارير من ينتقد عدم التوازن ويسلط الضوء عليه: «لقد شاب الأطروحة خلل كبير في التوازن بين فصولها لكي لا أقول انعدامًا في بعض الأحيان» (التقرير 3)، ويتوافق هذا مع قارئ آخر للأطروحة نفسها يقول: «ثمة تفاوت كبير في عدد صفحات الفصول، وهذا خلل كبير يمكن تداركه» (التقرير 1)؛ أما القارئ الثالث فلم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى هذا الخلل (التقرير 2). وفي أطروحة أخرى يورد المقوّم ما يأتي: «بغية التوازن بين الفصول أقترح تقسيم الفصل الأول إلى فصلين ووضع عناوين لهما» (التقرير 11).

54يُشدّد البعض على التوازن بين الفصول، ويُفهم هذا التوازن كأنّه مساواة لعدد الصفحات، بينما المطلوب أن يكون التوازن نسبيًا بين الفصول، فلا يضم قسم فصلًا بـ 4 صفحات مثلًا وفصلًا آخر بـ 63 صفحة.

حجم الأطروحة

55يُلاحظ ميل لدى بعض الطلاب إلى تكبير حجم الأطروحة اعتقادًا منهم أن الحجم الكبير دليل جدية وجهد أكثر! بعض التقارير تنتقد الحجم الكبير للأطروحات، كما أن الحجم الصغير للأطروحة غير مقبول. إن غياب المرجعية المؤسسية في هذا المجال يترك المجال لتباين بين الأساتذة.

56يُستنتج من الملاحظات أن هناك شبه إجماع في كل الأطروحات على عدد من الملاحظات المتعلقة بالشكل، نتيجة سهولة الوصول والكشف عن هذا النوع من الأخطاء باعتبارها أقرب إلى المسائل التقنية، والتي يمكن اكتسابها بسهولة مع الخبرة. على الرغم من ذلك يمكن التمييز بين الأساتذة وتصنيف مواقفهم من الأهمية التي يُولونها لهذا النوع من الأخطاء لدى الطلاب كالتالي:

57الموقف الأول: المغالاة في التجاهل لهذا النوع من الأخطاء؛ وهو موقف ينطلق من نظرة فوقية «متعفّفة» عن مقاربتها، باعتبار أن التركيز عليها شأن يهتم به من يودون التعمية على ضعفهم النظري والمنهجي؛

58الموقف الثاني: المغالاة في التركيز على هذه الأخطاء الشكليّة على حساب الأخطاء الأخرى المتعلقة بالمنهج والمضمون، وهو يعبّر عن سهولة مقاربة هذا النوع من الأخطاء الشكلية التي تُركّز عادة عليها فئتان من الأساتذة، من لديهم خبرة مبتدئة في التقويم، أو من يعانون ضُعفًا في التكوين النظري والمنهجي.

59الموقف الثالث: في المقابل هناك الموقف المتوازن الذي لا يهمل أيًا من الأخطاء في الشكل والمنهج والمضمون، من دون أن يكون هذا التوازن شكليًا لجهة عدد صفحات كل منهما.

الملاحظات المنهجية

60تتدرّج الملاحظات المنهجية ضمن شبكة القراءة من عنوان الأطروحة وحتى الخلاصة العامة.

التقسيم المنهجي للبحث

61سبق أن تطرق البحث لمسألة التوازن في الأقسام والفصول كمسألة شكلية فيما يتعلق بعدد الصفحات، أمّا مضمون التقسيم فيؤشّر على خلل منهجي. يرتبط مضمون التقسيم المنهجي بمدى وضوح الإشكالية والنموذج التحليلي الذي يبنيه الباحث لموضوعه. فالأقسام و/أو الفصول ينبغي ان تعكس الوضوح المنهجي للباحث. وبالتالي أن تجيب هذه التقسيمات على التساؤلات البحثية الأساسية التي يطرحها الباحث. ويقترح بعض الأساتذة-القراء على الطالب إعادة التقسيم المنهجي للأطروحة، أو تبديل بعض الفصول أو تقسيم بعضها وتعديل بعض المضامين إلخ…

الربط بين النظري والميداني

62يتنازع أبحاث الدكتوراه اتجاهان: نزعة «تنظيرية» ونزعة «تجريبية»، وهما نزعتان مقلِّدتان لا مجدِّدتين، وترتبطان بالأستاذ المشرف. فمن خلال الملاحظة المباشرة بالمشاركة، يمكن تصنيف الأساتذة بين من يفضّلون لطلابهم أبحاثًا «نظريّة» بعيدًا عن البحث الميداني، وهي الفئة الأقل عددًا، وتقتصر على تحليل مضمون مراجع معيّنة حول قضيّة بحثيّة ما. ولأن التكوين النظري للطلاب يُعاني ما يُعانيه من ضعف، ومن بين الأسباب ضعف أو تغييب المقاربة السوسيولوجية في التعليم لمن هم من اختصاصات كالفلسفة والتاريخ والجغرافيا والحقوق والاقتصاد²¹، والذين أشرفوا على معظم الخريجين المحليين بالمرحلة الأولى، بعد إقرار الدكتوراه اللبنانية (1983)، والذين وفدوا إلى المعهد خلال الحرب، حين تفريع المعهد إلى خمسة فروع، وحين كانت الحاجة ماسّة لملء الشواغر؛ وأصل المشكلة أنهم علموا مواد اختصاصهم، وهم بمعظمهم من المتفوقين فيها، من دون ربطها بالظاهرة الاجتماعية، بل علموها كمواد بحت فلسفية، أو اقتصادية أو سياسية.

63أمّا النزعة الثانية، وهي السائدة في معظم الأبحاث الطلابية فهي نزعة «تجريبية مبتذلة»، تختزل البحث الاجتماعي إلى مجرّد استخدام للتقنيات، وكأن الاستمارة مثلًا تصنع بحثًا؛ لذلك تكتفي هذه الأبحاث بـ«ديكور نظري» يُسمّى إطارًا نظريًا ويكون أحيانًا مفصولًا عمّا سيتبعه من عمل ميداني، وكأنه مستقل بذاته، وبجمع المعلومات، ومن ثم جدولتها وإعادة تكرار النسب في الجداول! ورد في أحد التقارير: «إلا أن الثغرة لا تزال كما هي عند أغلب الطلاب، وتتمثّل بضعف الربط بين الجانب النظري والجانب التطبيقي وكأننا أمام قسمين لا نسيج تحليلي يشبك بينهما… أبرز مشكلة في هذه الأطروحة تتمثل في ضعف الجانب النظري الذي يؤصّل ويؤسّس للموضوع من خلال مناقشة الأدبيات والمقاربات المتعددة التي تعرضت لموضوع البحث» (التقرير 21)، وفي تقرير آخر يرد: «حجم القسم النظري أضعف الميداني… كما نجد خللًا يقع فيه العديد من الطلاب، يبدأ البحث فعليًا في القسم الثاني، وإذا استثنينا الأول لا يتغيّر شيء، وهذا القسم هو بمثابة مقرر جامعي أي ’كور‘ يمكن تدريسه للطلاب» (التقرير 16).

64المشكلة بالنسبة للنظري والميداني في تقارير الأساتذة حول الأطروحات لا تنطلق من المنظور نفسه، إذ ينتقد البعض طغيان قسم على آخر، بينما لا يلاحظه التقرير الآخر؛ كما ينتقد البعض الفصل بين القسمين النظري والميداني، والآخر ينتقد الدمج بينهما، والمسألة منهجية غير محسومة، فهناك دراسات سوسيولوجية مرجعية فيها قسم نظري وقسم ميداني (Dubar & Nasr, 1976)، ولم ينتقص ذلك من قيمتها، كما أن هناك دراسات يتم الدمج فيها بين النظري والميداني وأيضًا لا ينتقص ذلك منها شيئًا.

الدراسات السابقة (حالة البحث الراهنة)

65ترد في أحد التقارير الملاحظة الآتية: «الدراسات السابقة يجب أن تأتي قبل الإشكالية، فدورها المنهجي هو تبرير العمل البحثي وتقديم المقاربات الأخرى للموضوع في البحث؛ وتبيان التميز الذي اختارته الطالبة في مقاربتها البحثية وأطروحتها. بعدها تطرح إشكالية مشروعها البحثي ومن ثم فرضياتها» (التقرير 23). هذه الملاحظة لا تطال الطالب/ة فقط وإنما تطال الأستاذ المشرف أساسًا، لأن بعض الأساتذة لا يدركون من المغزى المنهجي من موقع الدراسات السابقة (حالة البحث الراهنة) بأنّها تُشكّل المبرر العلمي لإعادة طرح الموضوع من جديد، وهو ما يؤشّر على قصور منهجي واضح لدى الطلاب، وعلى تقصير من المشرف أو قصور منهجي لديه أيضًا، والأمر نفسه لدى القارئ الذي لا يشير إلى هذه الملاحظة.

66نادرًا ما تشير التقارير إلى الطريقة التي يستخدمها الطلاب في مراجعة الدراسات السابقة حول الموضوع والتي تقتصر على تلخيص كل دراسة على حدة، أي أنّهم يركّزون على المؤلّف ومرجعه، أكثر من التركيز على موضوع الأطروحة، وبالتالي عدم التركيز من قبل معظم تقارير الأساتذة على نوعية القراءات وعلى الهدف منها، هو نقطة ضعف تشترك فيها معظم التقارير!

67يُورد البعض القليل من الأساتذة ملاحظة حول النقص بالمراجع باللغة الأجنبية: «تفتقر الأطروحة إلى المراجع الأجنبية حيث تضم أربعة مراجع أحدها يتعلق بالمنهجية» (التقرير 14)، وهو مؤشر ذو دلالة على ضعف الطالب بهذه اللغات. بالمقابل تعاني الأطروحات باللغة الأجنبية من نقص المراجع باللغة العربية، في حين أن غياب هذه المراجع باللغة الأجنبية و/أو بالعربية لا يثير أي ردة فعل في تقارير أخرى، ما يعني أن وعي قضية المراجع، وخصوصًا باللغة الأجنبية، لا يحظى بالاهتمام نفسه لدى الأساتذة-القراء، إما بسبب ضعفهم الشديد باللغة الأجنبية، وإما لتسليم مسبق من الأستاذ-القارئ أن معظم الطلاب يعانون من ضعف باللغات الأجنبية، وإمّا العكس لنظرة دونية للمراجع باللغة العربية و/أو عدم اطلاع عليها من الأستاذ-القارئ، وبالتالي لا لزوم لهكذا ملاحظة، وإما لأن الأستاذ المشرف لم يصر ويلح على الطالب بالعودة إلى مراجع أجنبية!

الإشكالية

68لم تخلُ معظم التقارير من ملاحظة حول الإشكالية، ما يؤكّد على أن هناك مشكلة في فهمها. لا يقوم الطالب سوى بإبراز عدم الفهم هذا، الذي هو نتاج إعداد نظري ومنهجي في المعهد، والذي يتجلّى في مسودة أطروحته تشوشًا وارتباكًا. مما يجعل من الإشكاليّة وكأنّها أحجية طلاسمية بالنسبة للطلاب، لا حل لها.

69ورد في أحد التقارير: «صيغت الإشكالية بطريقة غير علمية فخالفت المعايير والأصول المنهجية، إن من حيث الصياغة أو من حيث المضمون بحيث لا يمكن القبول بها إطلاقًا» (التقرير 1)؛ وورد في التقرير الثاني حول الإشكاليّة نفسها: «يبدو واضحًا لدى الباحث التحرّج، في البداية، من الدخول في تفاصيل إشكاليته… إلا أن وصولي إلى خاتمة الأطروحة والاستنتاجات… وكأنني وجدت ضائعًا فسررت، لأن ما جاء في الخاتمة والاستنتاجات هو الذي يشكل إشكالية البحث بامتياز فحبذا لو بدأ الباحث أطروحته بالمادة الدسمة التي أنهى فيها هذه الأطروحة» (التقرير 2)؛ أمّا القارئ الثالث للأطروحة نفسها فلم يشر لا من قريب ولا من بعيد للإشكالية (التقرير 3). حين تصل هذه التقارير الثلاثة إلى الطالب يتساءل المرء عن هذا التشوش المنهجي! أحد الثلاثة لم يعلّق على الإشكالية، ويمكن تبرير ذلك أنه اختصاصي بالقانون لا يتعاطى كثيرًا بهذه المفاهيم؛ يبقى الآخران اللذان يقرّان أن هناك مشكلة في صياغة الإشكاليّة، ولكنهما تمايزا في الصياغة فاقتصرت ملاحظة القارئ الأول على العموميّات المربِكة، بينما أفاد القارئ الثاني الطالب من خلال نقده البنّاء.

70في أطروحة ثانية يورد القارئ الملاحظة الآتية: «تبدو الإشكالية مرتبكة، فالباحث غير واضح في طرح إشكاليته، لم يحدد الفترة الزمنية إلا متأخرًا وكان الأجدر به البدء بتحديد إشكاليته انطلاقًا من فترة ما بعد الحرب الأهلية واتفاق الطائف الذي نص على التوزيع الاجتماعي السياسي الطائفي… كذلك كان ينبغي طرح تساؤلات حول ما آلت إليه التركيبة السياسية والاقتصادية وواقع الأسر الفقيرة… والتساؤل عن الارتباط بين السياسي والفقر والاقتصادي والفقر…» (التقرير 10). في المقابل يورد القارئ الثاني للإشكاليّة نفسها ما يأتي: «إن الأسئلة المطروحة في إطار الإشكالية –ومع تأييدنا للغايات والأهداف الكامنة فيها– تُطرح بصورة إطلاقية أو لنقل إنها أقرب للأسئلة الصحافية، منها الى الأسئلة البحثية المدقّقة مفاهيميًا… لم يطرح الطالب في إشكاليته آليات العمل السياسي؟ كما أن الطالب قال لنا هناك أسئلة كثيرة يريد الإجابة عنها، لكنه لم يطرحها وبقيت طي الكتمان… في تقديرنا هذه الأسئلة لا تشِ أن الطالب لديه رؤية معرفية متكاملة حول موقع الفقر من مسألة العمل السياسي الممارس» (التقرير 9).

71في أطروحة ثالثة وردت ملاحظة القارئ الأول على الشكل الآتي: «تحتاج الأطروحة إلى بعض التعديلات خاصة الإشكالية التي تخلو من سؤال إشكالي حيث السؤال المطروح لا يعبر عن جوهر الإشكالية فضلًا عن ارتباك وعدم انسجام بين تعريف الإشكالية وطرحها» (التقرير 13)؛ أمّا القارئ الثاني فأورد ما يأتي: «بالنسبة للإشكالية، فإنه من المفترض أن تحدّد الطالبة إشكالية بحثها وهو ما لم تفعله. فقد قدمت للإشكالية بشكل موسع ولم توضح إشكاليتها، وهو ما لا يتناسب والبحث العلمي؛ وعليه فمن المفترض أن تعيد الطالبة صياغة الإشكالية بشكل أكثر دقة ووضوحًا» (التقرير 14).

72وفي أطروحة رابعة أورد القارئ هذه الملاحظة: «أقترح على الطالبة إعادة ضبط الإشكالية ذلك أن الأسئلة لا تمثل إشكالية بل تولد تساؤلات حولها. وهنا على الطالبة مراجعة أصول صياغة الإشكالية بدقة. ينبغي فصل الدراسات السابقة عن مضمون الإشكالية وتوضيح المقاربة التي يتبناها الباحث… في المحصلة بقدر وضوح الإشكالية التي تشكل أهم محطة في العمل البحثي تنبني الفرضيات ويشيّد نمط التحليل وحقل المعاينة» (التقرير 23)؛ في المقابل لم يشر القارئ الثاني إلى الإشكالية بأية كلمة (التقرير 24)!

73وفي أطروحة أخرى أورد القارئ ما يأتي: «بالنسبة للإشكالية: إنها بحاجة لإعادة صياغة مباشرة وواضحة وألا تكون على صيغة أسئلة متناثرة» (التقرير 25)؛ وورد في التقرير الثاني: «إعادة صياغة الإشكالية من خلال مراجعة الأدبيات المتعلقة بظاهرة» (التقرير 26).

74وفي مثال آخر ورد في التقرير 20: «تنويه بالجهد المبذول في معالجة الموضوع الذي يطرح إشكالية مهمة حول مسألة التنشئة الاجتماعية في لبنان إلخ…»؛ في المقابل يطرح التقرير 19 حول الأطروحة نفسها سؤال: «أين إشكالية هذا الموضوع؟»

75لا يمكن التوسّع بالقياس لمعرفة دقة الملاحظات حول الإشكاليات التي طرحها الطلاب، لأن صيغة هذه الإشكاليّات ليست بحوزتنا، والمتوافر يقتصر على الملاحظات التي وضعها الأساتذة القراء حول وجود إشكاليات للأبحاث أو غيابها، وحول صياغات هذه الإشكاليّات في حال توافرها. والبحث يكتفي بإبراز من جهة، ملاحظات الأساتذة النقدية التي تطال الطالب والمشرف، لأن الأستاذ المشرف إن تعفّف عن متابعة البحث في تفاصيله فهو من خلال الجهد الإشرافي المتقطّع يُفترض أن يكون موافقًا على الصيغة النهائية للإشكاليّة وللفرضيات وللمنهج الذي يستخدمه الطالب/ة في أطروحته/ها. تكشف الملاحظات حول الإشكاليات المشكلات المنهجية ونوعها لدى كل من الطالب والمشرف والأساتذة القرّاء.

76تمحورت ملاحظات القراء النقديّة على عدم تمكّن الطلاب من صياغة الإشكاليّة، وعلى عدم الوضوح في الصياغة، وكذلك على عدم ضبط الإشكاليّة. ولكن هذه الملاحظات تطال أيضًا، وبشكل غير مباشر الأستاذ المشرف، وتثير التساؤلات حول دوره؛ فالمشرف هنا هو بمثابة القارئ الأول للأطروحة وهو الذي يعطي أو لا يعطي إذن الاستنساخ، لذلك هو شريك فعلي للأساتذة القراء! أمّا الملاحظات التي ترتبط بتقارير الأساتذة القراء فهي تتوزّع على حالات ثلاث:

77في الحالة الأولى تتجلّى في اختلاف موقف القارئَين من وجود الإشكالية، فأحدهما يلحظ هذا الوجود ويطرح ملاحظات بشأنها، بينما الآخر لا يُقاربها لا من قريب ولا من بعيد؛ وفي الحالة الثانية هناك تفسيران: إمّا أن الإشكاليّة مقبولة، ولذلك لم يطرح القارئ أي ملاحظة حولها، وإمّا أن الإشكالية غير مقبولة والقارئ غير قادر على صياغة ملاحظاته حولها. في أحد التقارير ينوّه القارئ الأول بالجهد المبذول في صياغة الإشكالية، وفي المقابل يسأل القارئ الثاني للأطروحة نفسها «أين إشكاليّة هذا الموضوع؟»

78في الحالة الثانية: التوافق بين القارئَين أن الإشكالية تعاني من مشكلة، إلا أن هذا التوافق ليس بالضرورة أن يكون حول الملاحظات نفسها، إذ يركّز البعض على عموميات لا فائدة منها، بينما يسعى آخرون إلى تحديد دقيق للمشكلة وبعض اقتراحات لتجاوزها.

نموذج التحليل، الغائب الأكبر

79يشكّل نموذج التحليل، الذي هو «مجموعة متماسكة ومبنية من المفاهيم والفرضيات متصلة فيما بينها وذات دلالة» (Quivy & Campenhoudt, 1995)، الغائب الأكبر من ملاحظات الأساتذة القرّاء؛ وهو غياب لمحطة أساسيّة في مرحلة التحضير النظري للموضوع، وفي مرحلة الربط بين النظري والميداني، لأن غيابه يؤدّي إلى إنحراف المعالجة السوسيولوجية إمّا باتجاه المعالجات «التجريبية المبتذلة» وإما باتجاه «التنظيرية المبتذلة».

80يغيب عن الغالبية العظمى للتقارير هذا الفهم المتماسك لنموذج التحليل، وما يحضر في التقارير إمّا ملاحظات حول المفاهيم، أو حول الفرضيات، أو حول كليهما وإنما بشكل منفرد.

المفاهيم:

81يُقتصر حضور المفاهيم غالبًا في الأطروحات على التعريف المعجمي لها. هذا النوع من الحضور لا يحظى بملاحظات لدى أغلبية الأساتذة القرّاء. لكن الاقتصار على التعريف المعجمي (القاموسي) من دون العمل على تفكيك المفاهيم، وتحويلها من مفاهيم مجرّدة إلى مفاهيم إجرائيّة (أي إلى أبعاد ومؤشرات) أي الى مفاهيم قابلة للقياس، يشكّل عائقًا أساسيًا من عوائق الوصول إلى الدراسة العلميّة للظواهر الاجتماعية، وهو ما لا تشير إليه التقارير عمومًا.

الفرضيات:

82أما بالنسبة للفرضيات، فنادرة هي التقارير التي لا ترد فيها ملاحظات بشأنها. هناك تشوّش كبير، سواء لجهة حضور الفرضيات أم عدم حضورها، ولجهة صياغتها ووضوحها، أم لجهة غموضها وعدم صحة بنائها. هذا التشوّش لدى الطلاب هو نتيجة الإعداد الجامعي، ويتأكّد أكثر لدى الأساتذة سواء المشرفين منهم أم الأساتذة القراء.

83وتبيّن من المقارنة بين التقارير، حول بعض فرضيات الأطروحات نفسها، جملة من الملاحظات تتلخص بثلاث أساسيّة:

84الملاحظة الأولى، التناقض في تقويم الفرضيات: في حين يرد في التقرير رقم 1: «… بينما الفرضيات جاءت واضحة ومحدّدة»، يرد في التقرير رقم 2 حول الأطروحة نفسها: «أمّا الفرضيات، فقد جاءت وكأنها إجابات وضعت سلفًا… وكأن الدراسة اللاحقة هي مجرد تبرير لهذه الفرضيات المؤكدة». أمّا التقرير الثالث، فقد عزف معدّه²² عن مناقشة الفرضيات، وهو ما يثير التساؤل: فإذا كان راضيًا عن مضمونها وصياغتها فلماذا لم يعبّر عن ذلك بصراحة، وإن كان الأمر عكس ذلك فلماذا لم يناقشها. أما إهمالها كليًا، فمؤشر على مشكلة تُلازم التقارير إذ لا تتوافر لدى المؤسّسة المعنيّة شبكة تقويم grille d’évaluation، كان يمكن لها أن تجنّب التقارير بعض الانتقائية في الملاحظات. فتوافر أنموذج (أو شبكة) يُلزم القارئ بالإجابة عن أسئلة محدّدة، وبعدم تجاهلها. كذلك يُبرز المثل أعلاه التناقض بين تقويمين لقارئين لفرضيات الأطروحة نفسها إذ يشيد الأول بصياغتها ودقتها، بينما ينتقدها الثاني باعتبارها إجابات وضعت سلفًا، مع أن الفرضية بتعريفها المبسّط هي «جواب عن سؤال»، وبالتالي أن تكون الفرضية إجابة مسبقة ليست مأخذًا! في كل الأحوال ما يلفتني في التقريرين هو التناقض في القراءة للفرضيات نفسها.

85وفي المثال الثاني، يأخذ هذا التناقض شكلًا آخر، ففي قراءة الأطروحة نفسها، لا يشير أحد القراء إلى الفرضيات (التقرير 2)، بينما أفرد القارئ الثاني صفحة ونصف الصفحة في مناقشتها بالقول: «إن الفرضية رقم أ ليست فرضية واحدة…، والفرضية ج غير واضحة ما هو مفهوم بناء…، والفرضية د هي أكثر من فرضية…» (التقرير 19).

86الملاحظة الثانية، التوافق في التقويم: في قراءة فرضيّات أطروحة أخرى يتوصل قارئان من الأساتذة في المعهد إلى تقويم سلبي لها، فيقول أحدهما: «الأطروحة تتمتع بمواصفات العمل الأكاديمي الذي يجيز لمعدّته التقدم لنيل شهادة الدكتوراه… هذا التقييم الإيجابي لا يمنع لفت نظر الطالبة إلى جملة من الملاحظات… أولًا، لقد تأسست الأطروحة على فرضيات يشوبها عدم الوضوح، أو لنقل الارتباك الذي يصل حد التناقض… فالفرضيات… مجرد أفكار غائمة…» (التقرير 24)؛ بينما يرى القارئ الثاني أنّ: «بعض الفرضيات مكرّرة، فالفرضية الأخيرة مطابقة للفرضية الأولى… يجب الانتباه إلى أن صياغة الفروض تخضع لشروط، إضافة للوضوح والإيجاز وأن تكون خالية من التناقض ومنسقة مع بعضها. فالأهم أن تكون لديها القابلية للاختبار» إلخ… (التقرير 23).

87في كل الأحوال لا يهدف هذا النقد إلى الفصل في أي من التقارير على صواب وأي منها على خطأ، بل يهدف إلى إظهار التشوّش المنهجي الذي يصل إلى حد التناقض بين القرّاء أحيانًا، أو بينهما وبين الأستاذ المشرف، وهو ما يؤدّي جزئيًا إلى تشوّش لدى الطلاب. أضف إلى ذلك أنه على الرغم من التوافق بين القارئين المقوّمين على أن صياغة الفرضيات غير واضحة، إلّا أن مشكلة أخرى تُثار لدى أحد القارئين الذي يورد في التقرير نفسه أنّ «الأطروحة تتمتع بمواصفات العمل الأكاديمي» و «أن الفرضيات يشوبها عدم الوضوح والارتباك حتى التناقض»! فكيف لبحث أن تكون فرضياته متناقضة ويكون في الآن نفسه يتمتع بمواصفات العمل الأكاديمي؟

المنهج

88المنهج وما أدراك ما المنهج، فهو مع الإشكالية ونموذج التحليل من أكثر المواضيع إثارة للجدل، ومن أكثرها كمصدر للتشوّش والارتباك لدى الطلاب والأساتذة.

89يُلاحظ ميل لدى الطلاب للإكثار من المناهج التي يستخدمونها في أطروحاتهم/ن؛ فيستخدم البعض منهم/ن أحيانًا 6 أو 7 مناهج (إحصائي، تاريخي، مقارن، دراسة حالة، مسح اجتماعي، جدلي، وظيفي، بنيوي، إلخ…)؛ والاعتقاد السائد لدى البعض أنّه كلّما أكثر الطالب من تعداد المناهج في الأطروحة كان بحثه ذا قيمة أكبر!

90في قراءة لإحدى مسودات الأطروحات يشير الأستاذ المقوّم «استخدم (الطالب) المنهج الوصفي، اعتقادًا منه أن هذا المنهج كاف لدراسة الموضوع مع كل تعرجاته وأبعاده. غير أن الإطار الوصفي طغى على الدراسة فجاءت وصفًا للحالة السائدة وليس تحليلًا لها» (التقرير رقم 2). في المقابل، يستغرب القارئان الآخران: «أن يوضع تقرير من دون الإشارة إلى المنهج المُستخدم، ومدى ملاءمته لمعالجة موضوع البحث» (التقريران 1 و3).

91ومن الملاحظات حول المنهج في التقارير ما يأتي: «في الأطروحة هناك (استخدام) ثلاثة مناهج ولكن أدرجت من غير توضيح العلاقة التي ستنشأ بين هذه المناهج خصوصًا أن ثمة تعارض بين المنهجين الجدلي والوظيفي» (التقرير رقم 13)؛ وفي تقرير ثانٍ ترد الجملة الآتية: «ذكرت الطالبة المنهج التاريخي كما ذكرت إمكانية استخدام المنهج التجريبي معرّفة إياه من خلال التقنيات المستخدمة وقد تناست الطالبة المنهج الوصفي والوصفي التحليلي المستخدم في البيانات» (التقرير 14)؛ وفي تقرير ثالث: «الاسم العلمي لمنهج دراسة الحالة هو المنهج الكيفي، والمنهج الإحصائي هو المنهج الكمي، فضلًا عن أن المنهج المقارن لا يحيل إلى المناهج المعتمدة في السوسيولوجيا فالمقارنة موجودة في كل المناهج… على الطالبة اعتماد المنهج الوظيفي عوضًا عن المنهج المقارن لأن الوظيفي يتيح التحليل المقارن بكل تأكيد» (التقرير 28).

92هذه أمثلة عن الكتابات حول المنهج من خلال التقارير، وهي على قلتها تشير إلى مسألتين أساسيتين: الأولى تتعلق بتجنّب معظم التقارير الكلام حول المنهج المستخدم سواء أكان ملائمًا أم غير ملائم، وهو تجنّب نتيجة خشية وتهرّب من الدخول في سجال في هذا الصدد. بينما الجواب عن سؤال المنهج المستخدم ومدى ملاءمته للموضوع يشكّل إحدى النقاط الأساسيّة في أنموذج التقويم المرجعي الذي تعتمده الجامعة اللبنانية والجامعات الخاصة في تقويم أبحاث الأساتذة، أو الذي تستخدمه مراكز البحث الخاصة. أما المسألة الثانية فتتعلّق بتسميات المنهج وخصوصًا تسمية «المنهج الوصفي» و«المنهج الوصفي التحليلي» الذي نجده منتشرًا بين الطلاب، بينما يعترض أساتذة آخرون على هكذا تسميات باعتبار أن الوصف والتحليل هما مستويان من مستويات البحوث السوسيولوجية، وأن هذا الاستخدام العام يُلغي الخصوصية المنهجية المرتبطة بالميادين في العلوم الاجتماعية. كذلك الأمر بالنسبة للمنهج المقارن الذي يصر البعض في تقاريره على الإشارة إليه بينما البعض الآخر لا يشير إلى ذلك باعتبار أن المقارنة هي من طبيعة التفكير السوسيولوجي.

التقنيات، بناؤها واستخداماتها

93إذا كانت الإشكالية وبناء النموذج التحليلي والمنهج من القضايا المنهجية التي تثير ارتباكًا لدى الطلاب وبعض الأساتذة، وأنّه يمكن تفهّم هذا الأمر لتعدد المقاربات وللمستوى التجريدي الذي تتطلبه هكذا مواضيع، لكن يبدو أن الأمر يطال مستويات أدنى تتعلّق بالتقنيات وتسمياتها، وهي مشكلة تطال الإعداد التكويني الأكاديمي العام، والإعداد التكويني الذاتي الخاص للطلاب.

94فليس مستغربًا أن تجد أحيانًا في بعض التقارير ملاحظة من مثل «غياب المقابلة المفتوحة»، وهو ما يؤشّر على خطأ شائع يستخدمه بعض الطلاب والأساتذة. إن القول بمقابلة مفتوحة يعني أن هناك مقابلة مغلقة! وهذا ما يتناقض مع مفهوم المقابلة. كذلك الأمر بالنسبة لاستخدام بعض الطلاب والأساتذة لعبارة تقنية الملاحظة observation هكذا من دون تحديد، وهو استخدام نتيجة خطأ شائع، لأن الملاحظة المباشرة observation directe سواء أكانت بالمشاركة أم من دون مشاركة، هي التقنية، وهو ما يميّزها عن الملاحظة غير المباشرة (التوثيق) والملاحظة الوسيطة (المقابلة والاستمارة)؛ والأغلبية العظمى من التقارير لا تشير إلى هذه الفروقات في الاستخدام.

95تثير كيفية استخدام هذه التقنيات في الأبحاث جدلًا واسعًا، فيتطرق بعض القراء إلى استخدام بعض الطلاب لتقنية الملاحظة المباشرة من دون أي شرح لشبكة الملاحظة grille d’observation، وبالتالي يأتي هذا الاستخدام وكأنّ الملاحظة المباشرة لازمة الوجود في الأبحاث، ويتم اختزالها إلى مجرد الرؤية بالعين؛ بينما يغفل بعض القراء عن التركيز على هكذا ملاحظات.

96إذا كان استخدام بعض الطلاب لتسميات غير دقيقة تؤشّر على إعداد يُعاني من ثغرات، إلا أن ملاحظة القليل من التقارير لذلك والطلب بتصحيحها، في حين أن معظم التقارير تغفل الإشارة على ذلك، تؤشّر إمّا على عدم الاهتمام بـ«العالم السفلي» من البحث، إذ لدى البعض نظرة دونية للتقنيات والعمل الميداني، وإمّا على جهل بالفروقات في الاستخدام²³، وهو المرجّح.

97هناك عدد قليل من الأساتذة القراء من يبدون ملاحظاتهم حول كيفية ممارسة المقابلة من قبل الطالب، والتي غالبًا ما تُجرى كسؤال وجواب مع إغفال واضح للسمة التفاعلية للمقابلة، أي من دون أي استخدام للتقنيات الكلاسيكية أو الخاصة لتطوير الإجابات، بينما تتجنبه معظم التقارير. كذلك قليلة هي تقارير القرّاء التي تشير إلى مشكلة تحليل محتوى المقابلات، وإلى ضرورة بناء شبكة للتحليل السوسيولوجي لمحتوى المقابلات.

98كذلك الأمر بالنسبة إلى استخدام المقابلة، فالبعض من القراء ينتقد عدم عرض دليل المقابلة الذي استخدمه الطالب في البحث، وبالتالي يحول دون مراقبة صلاحية أسئلة الدليل لفهم الموضوع، أو يعرض هذا الدليل والذي لا يفي بغرض البحث. إن التمكّن من تقنيات البحث الاجتماعي تجعل بعض الأساتذة يركّزون على هذه الملاحظات بينما يتجاهلها آخرون.

99إلى هذه الملاحظات تُطرح مشكلة مدى ملاءمة التقنية المستخدمة لموضوع البحث، فالعديد من الأطروحات يُعالج موضوعًا نوعيًا بتقنية كمية، وتحديدًا الاستمارة، وهو ما ينعكس على نتائج البحث بالتأكيد. وقليلة الملاحظات التي تُثار حول مدى ملاءمة التقنية المستخدمة للموضوع، وملاحظات أقل حول صلاحية أسئلة الاستمارة في الحصول على الإجابات التي تحيط بالموضوع وتُسهّل بمعطياتها فهمًا جديدًا.

100يبدي بعض القراء ملاحظات حول كيفية استفادة الطلاب من الملاحظة غير المباشرة، أي التوثيق، وهنا يبرز ضعف التكوين النظري للعديد من الطلاب مما يجعلهم يرتبكون ويتشوّشون في التعامل مع الوثائق والاستفادة منها، بينما تغفل هذه الملاحظة التقارير الأخرى!

بين الوصف والتحليل والتفسير

101من الملاحظات الملفتة في تقارير معظم الأساتذة شبه إجماع أن معظم أعمال الطلاب فيها تغليب للجمع والسرد على حساب التحليل والتفسير. فقد أجمع قرّاء إحدى الأطروحات على ملاحظة مشتركة جاء فيها «اهتمت الأطروحة بالتفاصيل على أي وجه كانت… ولكن هذا المنحى تلهّى بالجمع والسرد والتفريع على حساب التحليل والتفسير» (التقرير 1)؛ «جاءت الدراسة وصفًا للحالة السائدة وليست تحليلا لها» (التقرير 2)؛ «أجد في الأطروحة في كثير من المواضع مجرد عرض لمعلومات بشكل عام، دون أدنى تحليل أو تعليق» (التقرير 3).

102يُستنتج أن الاتفاق واضح بين التقارير الثلاثة حول الجمع والوصف على حساب التحليل والتفسير، وهذه ملاحظة تُفيد أن الاتفاق أو الاختلاف يرتبط بالمستويات البحثية، فيزداد التوافق على المستوى الوصفي ويقل على المستوى التحليلي، ليندر على المستوى التفسيري.

103بعض التقارير يُربك الطالب لأنه ينطوي على تناقض لدى الأستاذ المقوّم كالملاحظة الآتية: «لفت نظري في الأطروحة النضوج التام للباحث في عملية التعاطي مع موضوعه… وقدرته على التحليل والتفسير»، ثم يورد في مكان آخر من التقرير: «ولكن هذا المنحى في المعالجة تلهّى بالجمع والسرد والتفريع على حساب التحليل والتفسير» (التقرير 1)!

104من خلال التقارير، ومن خلال المتابعة والملاحظة المباشرة بالمشاركة، تشترك معظمها بملاحظة حول تغليب الوصف على التحليل والتفسير لدى الطلاب، وهو ما يرتبط بنوعية الإعداد الأكاديمي التعليمي والبحثي الذي يتجاهل عمومًا التفكير التحليلي النقدي، كما يرتبط بالتكوين النظري والمنهجي؛ لأنه إن حضر التحليل، وخصوصًا الإحصائي، مع الوصف، فإن معظم الأطروحات تقتصر على هذين المستويين من مستويات البحث، دون الوصول إلى التفسير ليكتمل البحث منهجيًا.

خلاصة البحث

105جدل لم يُحسم بين الأساتذة أنفسهم، اختلافهم حول مضمون الخلاصة؛ يرد في أحد التقارير: «في الخلاصة والاستنتاجات: ناهيك عن أنها لم تتناول أبدًا الرد على الفرضيات التي طرحتها في المقدمة…» (التقرير 29)؛ ويرد في تقرير آخر: «جاءت الخلاصة العامة مختصرة لا تُبيّن مصير الفرضيات التي انطرحت في بدايتها. وكان على الباحثة أن تقدم لنا النتائج الواضحة وعدم الاكتفاء بالعموميات، وكأن لا دراسة ميدانية حصلت، ولا نتائج أدت إلى إثبات صحة الفرضيات أو خطئها».

106في المقابل، يعلّق أحد المقوّمين على خلاصة أطروحة أخرى بالقول: «الخلاصة ليست مكانًا لإعادة التذكير بالنسب والأرقام، وليست لتأكيد أو نفي الفرضيات. الخلاصة مكان لعرض الاستنتاجات العلمية (إذن النظرية) التي توصلت إليها الدراسة» (التقرير 24)؛ وفي تقرير للقارئ الثاني للأطروحة نفسها: «بالمقابل، لم تشر بوضوح في خلاصتها واستنتاجاتها إلى الجديد الذي قدمته في أطروحتها والذي ينبغي أن تبرزه… لذلك ينبغي إعادة النظر وتعميق الخلاصة من خلال إعادة مناقشة الإشكالية على ضوء ما أسفر عنه البحث ومناقشة الفرضيات وتبيان ما أسفر عنه الفحص والمعاينة» (التقرير 23).

107مثال آخر يكشف عن التمايز بين الأساتذة حول مضمون الاستنتاجات والخلاصة العامة، والتي يَحار الطلاب في كيفية التعامل معه. ويمكن تفسير التمايز بين الإعداد على الطريقة الكلاسيكية التي تقتضي مناقشة الفرضيات في الخلاصة، وبين قلة من الأساتذة ترى أن هذه المناقشة يفترض أن تتم في كل فصل من فصول البحث الذي يُعالج كل منها العلاقة بين متغير أساسي والظاهرة موضوع البحث.

تنميط التقارير

108في ضوء الملاحظة المباشرة بالمشاركة وغير المشاركة، وبعد القراءة الأوليّة للتقارير، وفي ضوء المضامين يمكن تنميطها ضمن الفئات الآتية:

109التقارير المُبتسرة:
هو نوع من التقارير الموجزة جدًا والتي يقتصر حجمها ما بين نصف الصفحة والصفحة ونصف. ويمكن التمييز ضمنها بين التقارير المرجأة، التي تُرجئ الملاحظات إلى ما بعد المناقشة!، والتي يقتصر التقرير فيها على عبارتين: «أن الأطروحة قابلة للنقاش»، وأن «الملاحظات سيتم تقديمها في المناقشة»! ورغم أنها تمثل حالات نادرة، إلّا أنها تُعبّر عن استهتار وتراخ في الموقف من التقويم؛ وبين التقارير الموجزة التي تقتصر على بعض الملاحظات العامة جدًا، وهي ملاحظات لا تُساعد الطالب في تصويب أطروحته وتطويرها. والنوعان يتناقضان مع الوظيفة الأساسية لدور التقرير، ويُسيء للإدارة الأكاديمية التي تقبل هكذا تقارير من دون اعتراض أو ردها للقارئ لإعادة التقويم، أو استبدال القارئ بآخر إن لم يستدرِك الأمر. هذه التقارير تنمّ عن رساميل ثقافية قوية أحيانًا لدى بعض القراء، أو ضعيفة لدى البعض الآخر، وما يجمع بين الفئتين هو ضعف الرأسمال الأخلاقي المهني. يبدو أن الوظيفة الفعليّة لقبول هذا النوع من التقارير هو تسهيل أمور الطلاب عبر تغليب الرأسمال الاجتماعي على حساب الرأسمال الثقافي.

110التقارير الانتقائية:
بعض الأساتذة لا يقرأون الأطروحة كاملة وإنما ينتقون منها بعض محتوياتها، وخصوصًا المقدمة المنهجية والخلاصة، مع انتقاء لفقرات من هذا الفصل أو ذاك، ويعتمدون على بعض الفذلكات اللغوية المفاهيمية. وهي تقارير تشكل منفذًا لهروب المقوّم من قراءة متأنية وشاملة للأطروحة التي تتطلّب وقتًا لا يُخصّصه لها. في هذا النمط من القراءات ادعاء تعفّف عن التفاصيل؛ وغالبًا ما تخفي هذه التقارير تجنبًا لنقاش جدّي للجانب الميداني من البحث، وخصوصًا الإحصاءات وقراءة الجداول والمعدلات إلخ…، نتيجة قصور معرفي في هذا المجال. وهي تتوافق مع رساميل ثقافية قوية ورساميل أخلاقية ضعيفة. قبول هذا النوع من التقارير من الإدارة الأكاديمية، يشبه الفئة الأولى السابقة، ويندرج في إطار «التواطؤ» على تسهيل أمور الطلاب، وبالتالي تغليب الرأسمال الاجتماعي على الرأسمال الثقافي.

111التقارير المُفصِّلة:
بعض الأساتذة يقدّم تقريرًا مطوّلًا ومفصلًا بملاحظات يغلُب عليها التعاطي مع الأمور الشكلية عمومًا، أو الشكلية والإحصائية و/أو الميدانية، دون التطرق إلى عناصر البناء الأساسي للموضوع، بسبب نقص في التكوين النظري. والأمثلة كثيرة حول عدم التوازن في هذه التقارير حيث تأخذ الملاحظات الشكليّة ثلثي (2/3) من التقرير مثلًا. وهذه التقارير تتوافق مع ذوي رساميل ثقافية ضعيفة (أو عن تشوّه في الرأسمال الثقافي، نحو التنظير أو التجريب حين يتوسّع القارئ بما يعرف) ورساميل أخلاقية قويّة.

112التقارير المُبهمة والغامضة:
بعض الأساتذة يًقدّم تقارير غامضة وتختبئ وراء صيغ مبهمة؛ في مقابلة لي مع طالب معني بهذا النوع من التقارير أطلعني على نسخة لديه كتب عليها بنفسه عبارة «ما المقصود» تعليقًا على ملاحظة الأستاذ القارئ؟ محاولة الغموض في التقرير هي شكل من أشكال الهروب لتغطية العجز عن النقاش الجدي للأطروحة. وهذه التقارير تتوافق مع قرّاء ذوي رساميل ثقافية واخلاقية ضعيفة.

113التقارير المتوازنة والشاملة:
قليلة جدًا التقارير التي تعبّر عن التزام الأستاذ بالتقويم الجدّي وتخصيص الوقت الكافي لقراءة الأطروحة ولوضع الملاحظات حول محتوياتها، سواء ما يتعلّق منها بالشكل أم بالإطار النظري والمنهجي أم بالعمل الميداني. إن الالتزام بمهنة التعليم، وبقضية تمكين طلاب معهد العلوم الاجتماعية نظريًا ومنهجيًا، هو التزام أخلاقي مهني يدفع بهذه الفئة إلى قراءة متأنية ومتوازنة وشاملة للأطروحات، وتسعى إلى تأمين الفائدة القصوى للطالب عبر صياغة تقرير واضح ومحدد. وهذه تقارير تتوافق مع ذوي رساميل ثقافية وأخلاقية قوية.

114تبقى الإشارة إلى أن صاحب الرأسمال الثقافي العالي، يمكن وبسبب ضغط الإشراف ونقص المدة المخصّصة لقراءة الأطروحة وإعداد التقرير، وظروف أخرى ضاغطة، يتراجع عنده الرأسمال الأخلاقي ظرفيًا، وفي حالات معينة.

تنميط ممارسة الإشراف

115علاقة الإشراف علاقة ثلاثية بين المؤسسة والأستاذ والطالب. دور المؤسسة لا يقتصر على الدور الإداري فقط، أي التسجيل، بل هي مرجعية أي إشكال بين الأستاذ والطالب، وهي تتدخّل، من خلال العميد، بتعيين اللجان للتقويم المسبق؛ وهي لجان يتراوح عملها بين «الجِديّة والشكليّة»، والحصيلة قبول معظم المشاريع، بسبب عدم وضع سقف لعدد الطلاب المقبولين. كما تتدخّل في تعيين لجان التقويم اللاحق لقراءة الأطروحة ووضع التقارير وموضوع هذا البحث ولجنة المناقشة النهائية لطالب الدكتوراه بعد إنجاز أطروحته²⁴.

116ولأن البحث يركّز على تقارير الأساتذة القراء، التي تتناول نتاج جهود الطلاب، والتي هي في جزء منها نتاج إشراف الأساتذة، ولأن الإعداد الأكاديمي للطلاب في المعهد تشوبه شوائب عديدة، كما يُردّد العديد من أساتذته وتشير الأبحاث المنفذة، فبمجرّد قبول أستاذ ما الإشراف على طالب دكتوراه، يعني أنه التزم مهنيًا وأخلاقيًا بأن يوظّف معرفته النظرية والمنهجية في توجيه الطالب وتمكينه بحثيًا.

117فئة المشرف اسميًا:
يمكن للإشراف الاسمي أن يكون سببه أولًا الطلاب أنفسهم، الذين يسجلون في المعهد ثم يغيبون عن السمع إلى وقت التسجيل القادم؛ ولا يَعدم الطلاب أعذارًا مقنعة أو غير مقنعة. مسؤولية الأستاذ تكمن في الاستمرار بقبول هذا الوضع وتغطيته لسنوات! وفي الحالة الثانية، وهي المتعلّقة بالأستاذ المشرف اسميًا، والتي يكون الطالب فيها مُتابعًا ولكنه يشكو من تهرّب الأستاذ من المتابعة²⁵. تعتمد هذه الفئة من المشرفين عادة على جِديّة الطالب نفسه، وعلى جِديّة بعض الأساتذة القرّاء؛ هو إشراف شكلي. هذا النوع من الإشراف يُربك الطالب، فإمّا أن يتخلّص الطالب المتطلّب من ذلك بالتقدّم بطلب نقل الإشراف، وهو ما حصل مع أكثر من طالب/ة، وإمّا أن يستمر مع الأستاذ المشرف اسميًا، ويستنجد بأساتذة آخرين، أو بأساليب أخرى لمعالجة الأمر وإنجاز الأطروحة.

118فئة المشرف غير المنتظم:
هذه الفئة تلتزم بالحد الأدنى من المواعيد مع الطلاب، طالما هي غير منظّمة مؤسساتيًا، ولا تتطلّب من الأستاذ أي تقرير عن وضعية الإشراف، إلّا عند التسجيل كل عام، حين يقدّم تقريرًا شكليًا. في هذا النوع من الإشراف يتم «إرشاد الطالب عبر التفاعل والنقاش العام» من دون دخول في تفاصيل البحث، ومن دون متابعة منتظمة، بل تكون متقطعة.

119فئة المشرف المنتظم:
وتشمل فئة من الأساتذة الذين ينظّمون ذاتيًا، لا مؤسّساتيًا، لقاءاتهم بالطلاب كمجموعة و/أو كأفراد. في اللقاءات مع المجموعة يعرض الطلاب أولًا سير العمل في أبحاثهم والصعوبات التي تواجههم/ن، ومن ثم يحصل نقاش وتفاعل مع الأستاذ المشرف، الذي يُزوّد الطلاب بملاحظات حول ما يعرضونه عن مسارات أبحاثهم والصعوبات التي يواجهونها؛ وفي حالة المراجعات الفردية يقرأ الأستاذ ما يُرسل له من فصول، ويضع ملاحظاته، إلى حين اكتمال الأطروحة.

120فئة المشرف المنغمس:
وهي فئة تُشبه الفئة السابقة لجهة تنظيم التواصل مع الطلاب، ومتابعة البحث بكل تفاصيله؛ وتتميّز عنها بأن المشرف في محاولة التصحيح يصيغ بعض الجمل والأفكار، أو بعض الفرضيات كأمثلة ملموسة للطالب/ة، وهو سلوك يرتبط بضعف الطالب/ة من جهة، وبمحاولة الدعم من قبل الأستاذ من أجل الدفع بالبحث قُدُمًا. وفي كل الأحوال ترتبط هذه المتابعة بالطالب/ة وبدرجة استيعابه وقدرته على الأخذ وتصحيح الملاحظات.

121فئة المشرف المتورط:
هذه الفئة من المشرفين، تذهب بالتدخل إلى أقصاه، عبر كتابة الأطروحة أو بعض فصولها، من قبل المشرف، أو من قبل آخرين بغض نظر من المشرف! وتتعدّد دوافع هذا السلوك من مصلحة مادية أو عاطفية أو قرابية. ويدخل ضمن هذه الفئة ظاهرة «التوريث الأكاديمي»، ليس بالمفهوم «البورديوي»، إلا في حالات معدودة، بل بالمفهوم «العصبي»!²⁶

122ينطلق هذا التصنيف من الملاحظة المباشرة، وهو محاولة للإحاطة بالممارسات الإشرافية، التي لا تنفصل عن الرساميل الثقافية والاجتماعية والأخلاقية. فالمشرف ذو الرأسمال الثقافي الضعيف، وبسبب عدم قدرته على التدخل الفاعل في تصويب الأطروحة ينتمي إلى الفئتين الأوليين (المشرف اسميًا، والمشرف غير المنتظم). ويُمكن لبعض من يملك رأسمالًا ثقافيًا مهمًا أن ينتمي لهذه الفئة، نتيجة ضعف في الرأسمال الأخلاقي، حيث الانشغالات المتعدّدة للمشرف أو عدم التعامل بجديّة مع الإشراف، أو الانطلاق من فهم محدّد لدور المشرف ينطلق من مسؤولية الطالب الكاملة في هذه المرحلة، وأن دور الأستاذ ينحصر بتأمين الغطاء الرسمي للطالب للتسجيل والمتابعة، أي تأمين الإشراف الاسمي. أمّا فئة المشرف المتورّط فهو المشرف الذي يكون لديه الرأسمالان الثقافي والأخلاقي ضعيفين، وهو يغلّب الرأسمال الاجتماعي في علاقته الإشرافيّة، سواء بالتورط المباشر عبر كتابة فصول، أو بالسكوت عن مساعدة من هذا النوع يعرف أن الطالب يُقدم عليها! يبقى أن فئتي المشرف المنتظم والمشرف المنغمس تتوافقان مع من يتمتع من الأساتذة بالرأسمالين الثقافي والأخلاقي معًا.

123يتوزّع المشرفون على هذه الفئات، ويمكن القول إن فئة المشرف المتورّط هي فئة قليلة جدًا، تليها فئة المشرف اسميًا وهي أيضًا قليلة العدد، وكذلك فئة المشرف المنغمس. أمّا فئة المشرف غير المنتظم فهي فئة وازنة، إلّا أن فئة المشرف المنتظم لا تزال هي الأكثر حضورًا، ولكن المآل العام سيخفّض، وخصوصًا في ظل عدم التشدّد في الحصول على رتبة الأستاذيّة، من عددها. فالذي يحصل على رتبة أستاذ عبر تغليب الرأسمال الاجتماعي على الرأسمال الثقافي، سيعيد إنتاج هذه السيرورة بنفسه في إشرافه على الطلاب، وبالتالي ستزداد نسبة الفئات الأخرى مقارنة مع فئتي المشرف المنتظم والمشرف المنغمس.

رابعًا – الممارسات المثيرة للأسئلة

124أكثر ما يلفت الباحث هو الاستمرار ببعض الممارسات على الرغم من التغيير الذي طرأ على العمادة في العلوم الاجتماعية، والمعهد العالي للدكتوراه، وهي تثير الكثير من التساؤلات والكشف عن خلفية هذه الممارسات يضئ على بعض المشكلات المنهجية.

غياب قاعدة معلومات عن الأستاذ واختصاصه وأبحاثه

125إن غياب قاعدة بيانات أكاديميّة عن الأساتذة في معهد العلوم الاجتماعية، وفي المعهد العالي للدكتوراه، يعزّز المسار الذي سبق شرحه أعلاه، ويؤدّي ذلك أحيانًا إلى تحويل الأطروحة إلى شخص غير مختص بالموضوع، أو على الأقل هناك من قاموا بأبحاث فعلية في هذا المجال وهم أولى بالمناقشة بحسب المعايير الأكاديمية للاختيار؛ واختيار غير المختص لمناقشة أطروحة ما سينعكس حتمًا على نتيجة التقويم، وبالتالي على الممارسة الأكاديمية التعليمية لاحقًا، فمعظم من أنجزوا الدكتوراه يطمحون بالانتقال من صفوف الطلبة إلى صفوف الهيئة التعليمية في الجامعة العامة.

126يتعجب أي باحث من غياب هذه القاعدة للبيانات الأساسيّة، فالأمر بسيط وينضم إلى مجموعة أسئلة سهلة التنفيذ وبديهية²⁷، ولكنها لم تنفّذ. يُشكّل عدم التنفيذ مفتاحًا لفهم «اللعبة الأكاديمية» في مسألة التقويم؛ لأن الإبقاء على، والاستمرار بمنطق الاستنسابية والزبانية في التوزيع، يُشكّل الوضع الأمثل للعمادات المتعاقبة في ظل تراجع البعد الأكاديمي.

عدم اعتماد شبكة قراءة (grille de lecture)

127يتم تقويم الأطروحات من دون أي شبكة معتمدة مؤسّساتيًا، في حين أن الجامعة اللبنانية ومراكز الأبحاث الخاصة وغيرها يستخدم كل منها أنموذجًا محدّدًا لتقويم الأبحاث. يبقى السؤال قائمًا ما الذي حال ويحول دون اعتماد شبكة قراءة، وهل الأنموذج يُعدّ تعدٍّ على حرية الباحث الأكاديمية وحدٍّ لها، أم هو تنظيم للتقويم وإلزام للمقوّمين بالإجابة عن أسئلة محدّدة والابتعاد عن مزاجية القارئ المقوّم والاستنسابية في وضع ملاحظات على جوانب من الأطروحة وإهمال أخرى، ومن التفاوت في حجم التقارير وشكلها ومضمونها؟ إذا كان الأمر يُعد تحديًا فلماذا يتجاوب «الأساتذة المشهود لهم» مع أنموذج التقويم الذي يُرسل إليهم من الجامعات ومراكز الأبحاث؟

الترفيع «الزبائني» وغياب التأهيل على إدارة الأبحاث

128من المسائل الملفتة في المعهد أن مجرّد حيازة أستاذ ما شهادة الدكتوراه بإمكانه التعليم في الجامعة²⁸. وما أن يمر عامان على من يحوز شهادة الدكتوراه اللبنانية، ومن دون أي بحث أو أي إنجاز آخر، يصنّف حكمًا أستاذًا مساعدًا؛ وعلى الرغم من توافر أنموذج معتمد لتقييم أبحاث الأساتذة، وإن كانت له إيجابيات سبق ذكرها، لكنه لم يحد من المحسوبية والزبائنية في ترقية بعض الأساتذة. كلام كثير يتردّد في هذا الصدد والأمثلة لا تحتاج إلى كبير عناء حول عدم الجدية أحيانًا في التعاطي مع مسألة الترقي الأكاديمي²⁹. لكن المسألة لا تقتصر سلبياتها على ترفيع من لا يستحق، بل لها ارتدادات على الإشراف والبحث العلمي، فبمجرّد الترفيع إلى رتبة الأستاذية يحق للمرفّع الإشراف على طلاب دكتوراه من دون أي تأهيل على إدارة الأبحاث (HDR)، والذي هو إجراء معتمد في الجامعات العريقة كافة، بينما يفتقر إليه المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية.

129فالإشراف في المعهد سابقًا، والمعهد العالي للدكتوراه حاليًا، يُكتسب بالخبرة الذاتية، وهي خبرة متفاوتة بالارتباط بنوعية المشرف من جهة (راجع التصنيف أعلاه)، وبحسب نوعية الطالب وما يحمله من رأسمال ثقافي، ومدى استعداده لبذل المزيد من الجهود في عملية التكوين الأكاديمي، من جهة أخرى. ويكون الإشراف كارثيًا بارتداداته حينما يتعلّق بأستاذ غلّب في كل مسيرته الطالبية والمهنية لاحقًا الرأسمال الاجتماعي على الرأسمال الثقافي.

130السؤال يُطرح هنا أيضًا لماذا تراخت الإدارات التي تعاقبت على المعهد في اتخاذ أي أجراء من أجل ضبط مسألة الإشراف على الأطروحات على الأقل؟ والجواب الأولي أن ضعف المعايير الأكاديمية لحساب معايير غير أكاديمية، يؤدّي إلى زيادة نفوذ المعنيين الذين تعاقبوا على إدارة المعهد، والدخول في «مساومات» هم يديرونها ويلعبون دورًا أساسيًا في حسمها.

كثافة الطلب على الدكتوراه

131دفعت التسهيلات العديدة التي يتسم بها معهد العلوم الاجتماعية (3 سنوات، حضور جزئي، دوامات مرنة، عدم تفرغ للدراسة، إلخ…) الآلاف من الطلاب للالتحاق به³⁰. وإن كان التعليم العالي حق للطلاب، فجودة التعليم حق للجامعة وللمجتمع. إن مسار التعليم في معهد العلوم الاجتماعية، بعد الحرب والتدفق الهائل للطلّاب، لم يؤمّن حقهم في التعلم وحسب، بل ساهم، من خلال تراخي بعض من الهيئة التعليمية، بترفيع شبه آلي سهّل للطالب، بعد الحصول على الإجازة، وفي ظل أزمة سوق العمل والبطالة، الاستمرار بالتعلم حتى مرحلة الدكتوراه.

132ضج المعهد العالي للدكتوراه أخيرًا (2016) من العدد الكبير للمسجلين في الدكتوراه في العلوم الاجتماعية؛ وهو ما انعكس ضغطًا شديدًا على من هم برتبة أستاذ³¹. أدّى هذا الطلب الاجتماعي إلى التواطؤ في تسهيل مسارين، الأول: الترفيع لرتبة أستاذ، بمعزل عن المستوى الفعلي للكفاءات، وبالتالي الحق بالإشراف وتخريج حملة دكتوراه، والثاني: تعيين الخريجين في التعليم الجامعي، وهو مسار بكل تعقيداته وتشعباته، ينعكس سلبًا على المستوى الأكاديمي العام، وعلى المستوى البحثي تحديدًا.

المحاباة في تعيين لجان قراءة الأطروحات

133تعيين اللجان العلمية لمناقشة أطروحات الدكتوراه هو من صلاحية العمادة، وعادة ما تُختار الأسماء في اللجان في ضوء المعرفة الشخصية للعميد بالأساتذة. وهي صلاحية يمكن الاستفادة منها بالتحكم بشبكة التوزيع، إن لم تكن المعايير الأكاديمية وحدها المرجع. والأغلب الأعم أن اللجان تُعيّن من أساتذة المعهد نفسه، أي تلعب فيها شبكة العلاقات بين الزملاء دورًا مهمًا في نوعية التقارير وفي المناقشة النهائية للطالب/ة. من هنا يرتدي اختيار أعضاء اللجنة أهمية خاصة، وهي مجال واسع للتسهيل أو التعقيد. من بين التقارير الثلاثين (العينة) التي توفرت لهذا البحث، ومن بين 61 أستاذًا عُّيّنوا قراءً في لجان المناقشة أستاذان فقط كانا من خارج معهد العلوم الاجتماعية، واللجان الباقية كلها «أهلية بمحلية». غالبًا ما يقترح الأستاذ المشرف أسماء أعضاء اللجنة، وتأخذ العمادة، بسبب غياب قاعدة البيانات، بالاقتراح كله أو تستبدل بعض الأسماء. وهكذا تتم المناقشات بين زملاء أصدقاء مع كل ما يرافق ذلك من مساومات ومن محاباة على حساب المستوى الأكاديمي.

للحد من التأثير السلبي لعلاقة الزمالة على المناقشة، تفيد التجربة الفرنسية بأن تعيين القراء يكون دائمًا من خارج الجامعة، التي يتابع فيها الطالب دراسته، ومن المشهود لهم في الاختصاص (مقابلة مع صابرين لوسياني Luciani). ويتبيّن في التجربة اللبنانية، ومن خلال الملاحظة المباشرة بالمشاركة، أن تطعيم اللجنة بأساتذة من خارج المعهد يُضفي جِديّة على التقارير والمناقشة النهائية للطالب، شرط أن يكون الاختيار لأساتذة في اختصاصات لها علاقة بالموضوع وليس لاعتبارات غير أكاديمية، وحتى مع تطبيق هذا الاقتراح مؤخرًا برزت مشاكل من نوع آخر ترتبط بطريقة التقويم بحسب الكليات، وبغياب الدليل المرشد للتقويم.

غياب لجنة متابعة طلاب الدكتوراه

134يسجّل الطالب في المعهد تحت إشراف أستاذ. أمّا في فرنسا، ومن ضمن الإصلاحات التي واكبت اعتماد نظام LMD، تم، إضافة إلى الأستاذ المشرف، تشريع ما يسمى بلجنة متابعة للطالب Comité de suivi individuel³² تجتمع بالطالب كل سنة مرة، ويقدم لها تقريرًا عن سير العمل بالأطروحة وتناقشه في ذلك، واللجنة بدورها تضع تقريرًا يُرفع إلى مدير/ة المعهد العالي ومنه/ها إلى نائب رئيس الجامعة للبحث العلمي³³. أكثر ما يتحسّر عليه بعض طلاب المعهد أنهم يمضون خمس سنوات من دون إشراف جِدي، ثم يتسلّمون تقارير تنسف أجزاءً مهمّة من البحث، إن لم تنسف البحث من جذوره، بينما لو توافرت متابعة مستمرة للطالب من أستاذه، ومن لجنة المتابعة، وإذا ما أُحسِن تطبيقها، لخفّفت الكثير من المشكلات التي يتعرض لها الطلاب، ولكانت حسّنت من المستوى البحثي.

خلاصة: التبدّل في العمادات واستمرار المعتاد من الممارسات

135تبيّن أن التغيير بالعمادات³⁴ لم يؤدّ إلى تغيير في الممارسة الأكاديمية البحثية. صحيح أن الأفراد مهما علا شأنهم هم محكومون بسياسات عامة تتبعها المؤسسة التي يديرونها؛ وعلى الرغم من ذلك كان التعويل دائمًا على أن الشخص الفاعل يمكنه أن يلعب دورًا ما في حياة المؤسسة، ويتخذ بعض الإجراءات التي لن تؤدي إلى تغيير جذري، وإنما إلى الحدّ من التسيب أو التراجع، أو التقدم ببعض الجوانب ضمن الإمكانيات المتاحة. فالمسار الإجمالي استمر هو هو مع بعض التعديلات الطفيفة في مراحل معينة، ولكنها لم تفض إلى تغيير حقيقي³⁵.

136كشف البحث، من خلال قراءة أوليّة لمجموعة تقارير، تمايزًا يصل إلى حد التناقض بين الأساتذة القراء (مُعدو التقارير) للأطروحات، وهو ما يطرح تساؤلات حول الممارسات في هذا الحقل؛ فكل التساؤلات أعلاه، التي تهدف إلى تجويد التقويم، ليست مسائل غامضة أو غائبة عن تفكير العلميين الاجتماعيين، وخصوصًا على مستوى من تسلموا أعلى المراتب في المعهد، والذين هم بحكم القانون مسؤولون إداريون وأكاديميون عن حسن تنظيم وتأمين أفضل الشروط لأفضل إعداد علمي وبحثي في المستويات كافة، فما الذي منع ويمنع هؤلاء طيلة هذه السنين من أخذ المبادرة؟

137منذ الحرب، وبعد إنشاء الفروع المناطقية-الطائفية، بدأ مسار جديد في الجامعة اللبنانية أُدخِلت فيه السياسة إلى الحقل الأكاديمي لتحسم فيه، وخصوصًا في الكليات ذات الانتساب المفتوح، لأن الكليات التطبيقية محكومة بمعايير الكفاءة الأكاديمية إلى حد كبير.

138إن تشتُّت «الجماعة العلمية» بسبب الحرب التي أدّت إلى التفريع، وملء حاجة الفروع المستحدثة بكادر تعليمي «من بو قريبو»، ومن بينهم عدد لم يكن قد حصل على شهادة الدكتوراه، وعبر التدخل السياسي في حالات كثيرة، أضعف «الجماعة العلمية». في المقابل إن تدفق الطلاب بأعداد كبيرة، وخصوصًا من الإناث ومن المدارس العامة الحكومية، وعدم تطلّب هذا الجمهور أكاديميًا، لا بل محاولة بعضه اتباع أساليب غير أكاديمية للنجاح، كل ذلك سهّل على الإدارات المعنية (المدراء والعمداء المعيّنون بالسياسة في معظم الأحيان) أن تسلك في ممارستها حكامة تُراعي التوازنات السياسية (الموسوي، 2013)، من أجل إرضاء الآخر السياسي، وتحصين الموقع الشخصي الذي يتحكم إلى حد كبير بإدارة التوزيع المعنوية والمادية في المعهد (تعيين في التعليم، مواد التدريس، مراقبة الامتحانات والتصحيح، تعيين في لجان على أنواعها، إلخ…).

139أزمة التقويم الأكاديمي ليست مسألة خاصة بمعهد العلوم الاجتماعية، ولا بالمعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعة اللبنانية، وفي جامعات لبنان، بل هي أزمة تردّد صداها في العديد من بلدان العالم شمالًا وجنوبًا. أزمة إن كان بعض جذورها يرتبط بالعلم نفسه، إلّا أنها ترتبط بشكل أساسي بالعاملين في حقل هذا العلم (العلوم الاجتماعية). ونحن نتناول هذه المشكلة بالمعالجة بهدف خلق وعي بها كمدخل للتحسين في الأداء، وليس لحل الأزمة، لأنها أزمة بنيوية ترتبط بالحقل الأكاديمي وبعلاقته بالسلطة السياسية.

140يبقى التساؤل إلى أي مدى كانت تُساهم التقويمات التي يقوم بها الأساتذة-القراء بفعالية في تعديل مضمون الأطروحات نظريًا ومنهجيًا، وبالتالي إلى أي مدى تُساهم التقارير في التكوين الأكاديمي للطلاب؟ سؤال يحتاج إلى مقارنة بين التقارير وبين مضامين الأطروحات المرتبطة بها، وهو ما يمكن أن يُشكّل موضوعًا لدراسة أخرى معمّقة.

141يؤمل أن يشكّل هذا البحث صدمة إيجابية للإدارة الجامعية المعنيّة و«للجماعة العلمية»، بما يؤدي إلى تجاوز المقاربات الشكلية والمدرسية والاستفادة من الأبحاث المُنتجة محليًا لتطوير المقاربات المنهجية لأزماتنا وما أكثرها.